الاثنين، 8 يوليو 2013

امي


ولدت جميلة.  ولدت طفلة.  طفلة لم تنل حصتها من الطفولية في منزلها حيث انمحت بفعل وجود عائلات.  كبرت طفلة، فصغرت كبيرة.  علّها تنال ما لم تحظى به.  اوقعتها الايام العجاف في شرك الخوف.  فاقعدها زمانا قبل ان يسلب منها قدرتها على الحركة.  ذاك اللعين الذي ادخلها دائرة المرض منذ صباها.  خافت على فقدان اشيائها.  واشياؤها ما كانت من مادة بل عائلة.  خافت ان تضحي وحيدة في مجاهل العالم حيث لا تشعر بالامان. 
تزوجت ابي عن عشق.  وعقلها لمّا اقترنت به، ما كان قاعدا على قلبها.  جمعهما الانجذاب الجسدي فأثمرت بنين وبنات.  ولمّا ولى العشق. اكتشفت انه من طينة مختلفة لا تتآلف مع طينتها.  فبدأ مشوار العذاب. استسلمت للاحباط، ذاك اللعين الذي جرّها الى المرض. 
فامي لا تحب المواجهة. تكره اخذ القرارات مخافة اللوم والفشل.  هي الطفلة الكبيرة التي تحاول استرجاع طفوليتها المسلوبة.  صادقت الحزن والاسى.  واستثمرت في بنيها وبناتها.  ارادتهم ان يكونوا مميزين.  ارادت ان ينتفضوا على الظلم. 
ما اقتنت والدتي الفرح، مخافة فقدانه.  اضحت تعشق العذاب، فعاقرها.  عاشت ناسكة في منزلها.  ازدرت بالملبس والمأكل والمناسبات غير العائلية.  حنونة امي الصغيرة لكن على طريقتها.  فاظهار المحبة للمحبوب، فضيحة.  
احبت العلم لاولادها،ووضعت كل ما تملك على اقدامه.  كيف لا وهي المربية التي احبها تلامذتها، حيث ما حلت!!  شرّبت النشأ الطموح مع الدروس، والكفاح مع الحراك.
توكلت على ربها.  الا انها ما سألته ان يحررها من سجن خوفها وهربها من ماضيها.  لم تتقبل مرضها على الرغم من انها خضعت له حتى المساكنة.  احبته لانه عتيّ.  ومن ثمّ فانه قد اقعدها ووضعها في دائرة الاهتمام.  معه ما عادت ممحية بل تظهّرت حتى العذاب. 
افتقدها الرب بمحبة امها وحماتها لما قسى الزوج عليها.  فذاقت كؤوس المرارة واحتستها بصبر.  صبرت حتى عيل الصبر من صبرها.  فالى اين ترحل؟؟ وماذا تصنع باولادها؟؟  قبلت الظلم خوفا من المجهول.  رفضت الفضيحة.  فالتسريبات ممنوعة.  وما هو خارج حوائط عالمها المحصن كان مخيفا.    
كانت تسر بأولادها من حولها، تطهو لهم.  كانت تفرح بهم كدجاجة تحتضن فراخها.  ارادت لهم ان يكبروا لكن من دون ان يتركوا حرم المنزل حيث كانت سلطانة على طريقتها.  حكمت على طريقتها.  وهي حكيمة.  الا انها ترى العالم على طريقتها.  تراه غابة يحكمها وحوش.  اما دارتها فالواحة.  لذا فانها لا تريد لبنيها وبناتها ان يخرجوا اليه مخافة ان يلتهمهم ذاك الذي التهم صحتها وطلتها.  هي تؤمن.  احبت ان نكبر في الكنيسة التي ما ترددت هي عليها الا نادرا. .فهي لا تحب خارج المنزل.  وتكره التغيير.  فالتغيير يستولد الخوف عندها، الخوف من المسؤولية، ومن الفشل، ومن المجهول. 
ما صادقت جسدها بل صارعته.  امضت حياتها تعمل.  فالدقيقة التي ترحل لا تعود.  مازال صدى كلماتها يطن في رأسي :"اقتل الوقت قبل ان يقتلك".  والوقت لا يقتل بحسب امي الا بالعمل الدؤوب.  وما عدا ذلك، فهوان وسقوط.  ما كانت تسمح لنا ان ننام بعد نهوض الشمس.  فالموتى وحدهم ينامون بعد ذلك.  ننهض مع الشمس ونخلد معها هكذا هي القاعدة.  محافظة هي.  ومحبة على طريقتها. 
امي يا ملاكي القابع في سريره والذي يرى العالم من غرفته، احبك.  امي يا امرأة قستها الحياة حتى المرارة، فنزعت منها فرحها.  افرحي لانّ هدفك قد انجز. 

امي يا طفلة حكيمة في ثياب امرأة، مازلت تسكنين فؤآدي، ملهمة ومرشدة. علمتني ان الحياة مشوار.  وبأنّ لا مكان للهوان لانّ الهدف معروف.  وانا اعرف هدفي اليوم تماما واعمل له.  امي يا امرأة تقهر الجسد.  وتعتبر بأنّ قوة المرأة ليس في حسنها وثيابها بل في ثباتها وصبرها وتضحياتها تحية لك.  تحية من ولد متمرد، كان يوما صغيرا.  وهو لا ينفك يكون في يقينك طفلا يمسك هدب ثوبك يختبئ خلفه اذا ما حزن او خجل.

هناك 4 تعليقات:

  1. جورج برباري8 يوليو 2013 في 12:36 م

    مقال رائع عن أم عاشت لا لتكون إلا "الأم" مع أل التعريف. أحببناها، مشينا مسيرتها دون أن نعرفها. شفاها الله ولتفرح دائمًا بنظرها بنيها وبناتها ينجحون وينمون أمامها على دروب الحياة.

    ردحذف
  2. شكرا ايها الاستاذ العزيز جورج. انّ تعليقكم هذا لشهادة افتخر بها. مع محبتي،
    مازن

    ردحذف
  3. من أنت؟ من تكون؟ من اين تأتي؟ الى أين انت ذاهب؟
    أفي الشرق ولدت والى الغرب ترحل؟
    أذهلتني يا صديقي، أربكتني، اقعدتني، أرعبتني....... أبكيتني.

    كل هذا الشعور، كغبار شمس تشرين، تسللت كلماتك الى روحي،
    عذراً أعتقد، من خلال أريج حروفك، إني أكلم أمي ..." أمي يا أمرأة قستها الحياةحتى المرارة..."
    شكراً مازن ، شكراً يا صديقي.

    ردحذف
  4. شكرا يا عزيزي سمير على كلامك الرائع وصدقك ومحبتك. اقدر غاليا شهادتك هذه. ادامك الله.

    ردحذف