الأربعاء، 18 يونيو 2014

مواهب واحترار


 
كانت الدنيا في زمن العنصرة.  والقمح ذهب للحصاد.  جلس الخوري "طنسى" في الخارج.  وراح يستدعي الاولاد.  حضر "برهوم" وصديقه "كوكي".  فسالهم الخوري ان يتكلموا.  فتكلموا بالعربية.  فقال في العنصرة نتكلم لغات اخرى.  "الا فتكلموا يا حلوين" .  بدأ "برهوم" "يترغل" (يتكلم) في الفرنسية.  فقال: "لوازو فول" اي العصفور يطير.  اما "كوكي" فترغل" كلمات بالعصفوري.  فضحك الخوري، واجابهم: "في العنصرة نستدعي، كي يحل على اولاد الرعية، روح الفهم والذكاء والادراك.  الا انه على ما يبدو لا يستقر عليهم.  فقبل العنصرة مثل ما بعدها.  لا بل البطنة تقتل فطنتهم التي تتراجع".   وكان ان لمح فهيم الرعية "بوب" المحترم يتلمذ الولدين.  فانضم ضيفا الى الحلقة.  فرح الولدين اذ شعروا به شخصية محببة من شخصيات السيرك.  وانبهروا بحذائه  الابيض، وثيابه المرقطة، وربطة عنقه الصفراء.  وقد وجدوه بمنتهى الفهم والغيرة.  فهو من فرسان "كفرنسيان" ممن يحملون الجماعة على الاكف.  تكلم بثقة نفس في موضوعات غير مترابطة.  تكلم في الشغور في موقع رئيس جمعية "البر والاحسان" وتأثيرات ذلك على الابرشية وكفرنسيان.  وبدا مهتما بمعالجة الفراغ الحاصل حتى لو اضطر هو شخصيا بالتضحية بنفسه والتقدم الى الخدمة.  وكان الجوّ حارا في حزيران اكثر من المعهود.  فحلّ الاحتباس الحراري موضوعا عالجة "بوب".  فاعتبر انّ "الاحترار مؤآمرة امبريالية على "كفرنسيان" الممانعة.  وبانه نتاج الرأسمالية المتوحشة ونظمها التي ادت الى ارتفاع منسوب الانبعاثات الغازية في الهواء".  ولم ينسى مفاعيل ابقار "طانيوس" وماعدة "فوتين" المتميزة وكلاب "نباح".  وهذا كله من اسباب الشغور غير المباشرة.   فالفراغ ابن الخلاف.  والخلاف ثمار ارتفاع حرارة الدماء.  والدماء الحامية اساس تبدل الامزجة.  وتبدل الامزجة الناتج عن التبدل المناخي يزيل القناعة ويزيد منسوب التكبر الممزوج شكا.  فتتعطل الحياة العامة.  ومن تداعياتها الشغب الحاصل على اثر نزول الرفيق "يعقوب" وحرمه المصون الى الشارع احتجاجا ونقمة وغضبا جراء انخفاض كميات الاطعمة المتوفرة لاطعامهم كنتيجة لتصحر الاراضي الزراعية.  فصرخ الخوري: "كفى.  كفى نظريات "بوب".  ما هذا يا هذا؟؟  داخ الاولاد".
سمعت "افدوكيا" من شرفتها الحديث.  فما فهمت شيئا.  واعتبرت انّ "بوب" افحم المحترم.   
ثمّ انتقل "بوب" الى موضوع خاله يثير شهية المحترم اكثر.  لم ينتبه الى وجود "افدوكيا" التي كانت ترصد كل شيئ من شرفتها.  فسأل الاولاد لم لا ينتسبا الى الاكليريكية فيصبحا مطرانين.  وعندما يتخرجا، يصبحا فهيمين.  فتسمعهما الرعايا وتطيعهما  الناس الاوادم وتجيبهما بنعم مهما قالا.  فيصيران يتكلما بالنحوي.  ويختارا مرجعيات هذا الدهر.   ويجعلا من عمهما "بوب" الذي نصحهما مختارا او رئيسا او ما شابه.  ويفتحا له وللخصائص ابواب الملكوت.   
صارت "افدوكيا" تدن من شرفتها.  سمعها "بوب" فانحسر، مستلا هاتفه النقال.  وسمع كأنه كان يكلم زعيما الى ان رنّ الهاتف في اذنه.  فأرتعب "بوب".   وشعر بالحرج.  وصار يجري.  فسمعت اصداء ضحكة "افدوكيا" في كل "كفرنسيان".   قيل انّ ما حصل كان لتأديب الزائر.  وقد اشيع انّ هذا هو مصير كل من يتجرأ ويقاطع المحترم.    وعاد فصفا الجو.  فتكلم الخوري مجددا بالروح والمواهب.  وسأل الاولاد عن مواهبهم وعمّ يحبون ان يحظوا به.  فأجاب "كوكي": "عندي المغنى والرقص والطلة.   مازال يلزمني الغنى وحكي "الفرنساوي" لجذب الفتيات.   فتصير "ليلى" اجمل بنات الارض وابنة الجيران، حبيبته".  امّا برهوم فامل ان يطير.  فيصير نسرا يحوم فوق "كفرنسيان".    
وعاد الى المنزل وابلغ جده بكل تلك الامور.  فسر الجد بالحفيد.  وقال له:" جيد انك تريد ان تطير.  لكن لا يطير يا بني الا الصالح ونقي القلب.   اولاد آدم لا يطيرون الا عندما يصيرون اولادا لله".


الأربعاء، 11 يونيو 2014

الضمانة

احبّ "برهوم" ان ينزل حيث كان البحر يزور اليابسة.  نزل وجال في الحي البحري للمدينة القديمة التي كانت عاصمة الاقليم حيث قبعت "كفرنسيان".  ابصر كيف كانت الريح تأتي عاتية ومحملة بالصفير تواكبها الامواج التي راحت تجتاح اليابسة مذكرة اياها انها كانت يوما لها.  وكانت البيوت القديمة تئن وترتجف خائفة وتنحسر قليلا.   وتلتوي الازقة المتماوجة التي تتحول اقنية للمياه المالحة.   في وسط  الخوف وفي قلب المدينة القديمة التي قذفها البحر من احشائه ابصر كنيسة صغيرة ساهرة تصلي وحيدة في تلك الجهنة كي تسلم المدينة.  فالحرب كانت دائرة في المقلب الاخر للجبل.  وقد قيل انّ البشر تحوّلت شياطين بفعل خلطة تركبت بمزيج من الخوف والتكنولوجيا والظلم.  خلطة غيّرت وجه بعض المتدينين.  فصاروا ابناء للشياطين يعبثون في الارض خوفا ودمارا.  وصار البحر يرمي من جوفه مخلوقات مخيفة.  في الكنيسة الصغيرة والقديمة الساهرة لوحدها جلس "برهوم" ينتظر حتى جلاء العواصف.  وكان ركّاب تلك الكنيسة من بسطاء القلب والفقراء والمعذبين.  فالعروش والسلطات كانت قد هوت. 
عاد "برهوم" الى كفرنسيان قلقا.  فوجد "جرجس الكفرنسياني" في السوق، يدخن نارجيلته.  سأله: "ما بالك يا فتى مصفرا ومرتبكا هكذا؟؟  ما الذي حصل معك؟؟ لا تخف فعمك جرجس معكم حتى قدوم اجله".  فابلغه "برهوم" بما يجري في الناحية الثانية للجبل.  وكيف ان الناس تذبح والنساء تسبى تحت عباءة الدين.  فهدأه وطلب اليه ان لا يخاف.  فلا خوف على كفرنسيان وكل الناحية والاقليم طالما هو موجود.  فهو صديق "الفوهرر" المغدور الذي يعرف اسرار العالم.  وبحسبه انّ البسيطة ممسوكة اليوم من اعداء "الفوهرر" المهزوم.  "ولو انّ صديقه الفوهرر المهزوم قد انتصرعلى المرابين الذي يديرون العالم لكان غيّر وجه الارض.  ولكان هو قد اضحى من حكام هذا الدهر".  وراح يستذكر مغامراته حين كان يقل الركاب بسيارته "اوستن" على خط باريس-بارلين كما قال.  فأخبره كيف انه التقى يوما رجلا بثياب بيضاء فتح نافذة سيارته وناداه لاحتساء القهوة في حاضرته.  ولمّ سئل عن الرجل قيل له: "ما بالك يا جو الم تتعرف على صاحب القداسة؟؟ انه البابا يوحنا الواحد والعشرين يناديك".  حصل ذلك   في ساحة "اسبانيا" في روما التي مازالت تشهد لضربة كف "الكفرنسياني" الذي عرفته ساحات وقادة مدن وبلدان القارة الهرمة، كما كان يقول.   "فعندما كان "الكفرنسياني" يلهو بالكون.  كان جميع قادة القارة غلمانا وفتيات وبعضهم لم يكن قد ولد بعد".  ثمّ تنهد ولاعب شاربيه.   وسأل "برهوم" ان يصلي الى القدير كي يطيل الله بعمر "الكفرنسياني".   
وضرب "الباركينسون" "الكفرنسياني".   فانتشر الخبر بأنّ المعلم يوسف مصاب ب"الباكيستن".  فأعرب المعلم "جرجي" عن قلقه الشديد وعتبه على "باكستان" التي بدل ان تكافأه على وقوفه الى جانبها في مسيرتها للاستقلال عن الهند ارسلت له "الباكيستن".  وصار يقول ان "الوفاء" اضحى مفقودا.  وبانه حزين لكن غير متفاجئ من تصرف بعض الدول تجاهه. فقد اضحى يشكل عبئا على النظام العالمي بعد رحيل كل صحابه، كما افاد.  "فالعولمة لا تتحمل وجود شخص بحجم "الكفرنسياني"".  فكان ان جمع قومه وقال لهم :"يا ابناء بلدي العزيز، انا راحل ولست حزينا على نفسي بل على "كفرنسيان".  نفسي مضطربة لاجلكم.   انتبهوا ولا تتركوا مجالا كي تتسرب الشياطين الى ضيعتكم.  احفظوا ارثي وقصصي واقوالي.  والله ولي التوفيق". 


الأربعاء، 4 يونيو 2014

القمة

قال "برهوم" لجده:" جدي لماذا لا تأخذني الى الجبال معك؟   فهناك تهمس الريح في جوف الوهاد اسراها.   فتخرج  منها صفيرا كصفارات قطارات العودة.
 خذني جدي الى سقف" كفرنسيان" حيث تلامس السماوات الارض، والى حيث تصعد الطائرات كي تأخذ الناس بعيدا. 
خذني الى حيث بنى الملك له قصرا على تخوم بلاد الانس وعلى مقربة من بلاد الجان. 
خذني الى هناك كي اقطف الشمس واجلبها الى المنزل في كانون مشعة دافئة فيفرح بها كل من في البيت. 
خذني فقد قيل لي ان هناك ثمة سلالم يتسلقها الراقدون كي يصلوا الى دنيا الفرح والاحلام.  فهناك قصص "هايدي" و"فلونة" وكل انواع الخيال. 
اريد ان ارتمي في حضن غيمة تحملني فوق "كفرنسيان" فاعاين الدنيا من فوق.  وارعى مع غنمات الغيم عشب البقاء. 
خذني الى هناك فصوت جدتي الراحلة يناديني.  خذني الى هناك ف"ام رعيدي" قد همّت بتنظيف الارض.  واني اريد ان القي عليها التحية".
لم يجب الجد. بل صار يهز رأسه ويفكر.  فأصر عليه "برهوم" قائلا: "او ليس كرم الشمس قريبا من هناك؟؟ خذني معك الى الكرم".
ما اراد الجد ان يجهض احلام حفيده.  كما انه ما كان يرد له طلبا.  فاجاب: "الا فاستمر في الحلم في القمة يا بني.  فحين تبلغها تميتها.  ولا تعود قمة.  تهجرها الاحلام وكل كائناتها الاسطورية.  فلا يعود الحلم يستوطنها.  وتهجرها "ام الرعد" يا ولدي.  فتضحي حقيقة مجردة وناشفة ومفزعة احيانا، لا تشبه تطلعاتك يا بنيّ.  ليس المهم ان تتسلق القمم بل انّ الاهم ان تصبح انت قمة في تواضعك وفضيلتك.  فيسكن الله فيك عندها.  ويسكنك فيه.  و هذا الهدف من الوجود يا ولدي.  لن ابقى معك طويلا يا ولدي، لاني راحل غدا الى حيث تحوم النسور والى حيث اتسلق السلالم.  لن يكون بمقدورك ان تذهب معي لانّ دورك لم يحن بعد.   لا تخف اذا ما غبت عنك.   فانا قد قررت الرحيل".
وصار "برهوم" يبكي.  فطيّب الجد خاطر الحفيد وداعبه قليلا قبل ان يعده بأن يأخذه معه الى "كرم الشمس".  لم لا و"برهوم" لم يتلكأ يوما عن حمل زوادة من المنزل الى الدكان.  وكان الجد يكافئه بمنحه ليرة لبنانية لا غير يشتري فيها الصبي من بوظة "جمول" الشيئ الكثير".    واصطحب الجد حفيده صبيحة يوم معه في رحلة الى القمة حيث اراه العالم.  وعالمهم كان "كفرنسيان".  هناك اقترب "برهوم" من الغيوم، ولم يبلغها.  عاين الشمس ولم يجاروها.  فتش عن السلالم ولم يجدها.  ما استطاع ان يلتقط من الجو حتى طائرة واحدة.  ولم يجد ام رعيدي.  فايقين عندها انّ القمة هي فينا.  وانّ القمم تزول حين تطأها اقدام البشر.  وامسك الجد  بحفيده وسأله ان يركع ويستمع الى الريح.  وتطلع الجد الى العالي الى حيث تستقر الشمس وسأل روح الكون قائلا: " يا الهي هبه روح القمم فلا ينزلق في هوة الشهوات.  ازرعها فيه فيصير القمة بفضائله.   وانت يا ريح لا تهجريه، فيهجره الخيال.   اعطه ربي ان يكون حرا ابدا".  وتطلع الشيخ بحفيده واردف: "تعال الى هنا في كل مرة تشعر انك مكبل فتدرك انك حر.  تعال الى هنا واترك كل شيئ تحت وخاطب من تشاء ممن رحلوا.  خاطبني.  وانك حتما ستكون مستجابا".  انتهى المشوار.  واقلع الصيف ووافى الخريف.  فعاد "برهوم" عصر يوم من مدرسته.  وجد جده مسجى وحوله النساء نادبات.  لمحه من شباك المطبخ حيث كان يلوح له بمحفظته مبلغا اياه انّ يوم الدراسة انتهى. 
صرخ له فما اجاب.  فهام الصبي في البرية لساعة او اكثر.  راح يبكي وينادي الجبال التي ما اجابته.  صار "برهوم" وحيدا.  فمن كان يمده بالدعم والحب والمشورة ذهب كما قال.  وهو كان قد تعوّد ان يقتات حبا واحلاما واخبارا.
 وبعد رقاد جده، راح الصبي يكبر.  وقد علق في باله كم جرى طويلا وراء ذلك الصندوق الخشبي حتى التربة.  فقد عاين بام العين كيف تنتهي الرجال، وقصصها وذكراها لا تنطفئ.  عقد النية ان يكون قمة في التواضع والفضائل وفاء لجده.  الا انّ ذلك لم يكن سهلا.   فما زالت امامه مسافات كبيرة كي يصير "قمة رافع" التي تجاور كرم "الشمس" الذي اراد جده له ان يكونها.   وصار يسأل هل استطيع يوما ان اصبح ما قطعت عهدا ان اكونه؟؟  آه كم انّ العهود صعبة والقمم اصعب.