الثلاثاء، 25 مارس 2014

في طفولة "برهوم" في "كفرنسيان"

تطلع "برهوم" الصغير من حوله وضحك.  فالدنيا في الف خير.   جدته ترعاه كما ترعى دجاجتها وكرمها الذي غصّ بكل انواع الاشجار المثمرة من رمان وخوخ وايجاص وكرز وتفاح وما شابه.   وفي كرم جدته كان النحل يحوم، كما كانت الملائكة تحوم هناك.  حديقتها كانت كقصصها جميلة كحلم.   وقد كان يفرح حين تكلفه ان يرصد تحركات جده ويبلغها عن العمة "روز" التي كان تتقصد ان تقله في سيارتها من المنزل الى دكانه في سوق "كفرنسيان".  احبّ "برهوم" ان يعيش في منزل جدّيه حيث كان يلتقي الخال "الياس" الذي يقله على دراجة نارية الى العين.  ويبني له خيمة من "لزّان" صيفا على سطح المنزل حيث يرصد الكواكب.  وقد عشق جلساته المطعمة باخبار "نوح" و"موسى" و"ابراهيم" و"يعقوب"  وغيرهم من الانبياء.   وقد كان يصطحبه الى "كرم الحاج" حيث الاسرار والناس الراقدين في الحرب الكونية.
كانت الجدة مسرورة بحفيدها.  وكانت تسأله ان ينصت الى كل الناس كي ينمو.  فبالكلمة يكبر الفتيان ايضا.  والكلمة ينزلها الرب حيث ما يشاء وكيف ما يشاء وعلى من يشاء حتى لو كان "سكيرا" او ما شابه، كما كانت الجدة تقول.   الا انها كانت تطلب اليه ان يصبح دكتورا على شاكلة نسيبه د. غسّان الذي ما انفكّ يستعين بها لتفسير احلامه.   وقد ادركه يوافي اليها منصتا الى اقوالها وتفسيراتها للاحلام.  وجدته كانت تخلع منديلها وتلوّح اذا ما رصدت طائرة فوق كرم "الحاج".  فاستراليا هي الطابق العلوي للمسكونة، كما كانت تقول.  وهناك يقبع ابنها كما ابتها.  ولكم سمعها تقول " صلي لخالك وخالتك المقيميّن فوق في اوستراليا".   ما يزيد ذلك الحيّ حلاوة هو وجود "سبع" ابن عمه صاحب الاسم الذي يلغي مفاعيل السحر على النساء.  فالسباع لا يغلبها احد من الجن.  الا انه كان مع السبع لا يلاحقا الحيوانات بل شاحنة النفايات.  حيث انهما كانا مغرمين بانبعاثات المازوت.  الا انّ مفاعيل المتعة كانت تنتهي مع صدوح صوت جدة السبع "منوش" التي كانت انّ نادت تهتز الارض وتردد الجبال صدى صوتها.  فيعود السبع من حيث اتى كنعجة.  ويلاحق هو وحيدا شاحنة الزبالة التماسا لادخنتها.  وقد ضبطه شرطي البلدية "الياس عيسى" في الجرم المشهود.  فنهره اخ جده "خليل" واصعده معه الى السيارة الرباعية الدفع المخصصة لانتقال اركان السلطة المحلية في "كفرنسيان" واولادهم واولاد اولادهم والمقربين.   وقد سمعه يقول كلمات التقط بعضها من اذاعة "هنا لندن، صوت الاذاعة البريطانية" دون ان يعرف مغزاها :"غريبون هم اولاد هذا العصر. انهم عن حق اولاد الغازات الدفيئة والاحتباس الحراري".  فيرد عليه الشرطي، قائلا: " اسمع يا خليل بك.  انّ الاولاد من فصيلة القردة".  وقد كان الشرطي يضم الى عائلة القردة كل شيئ خارج عن المألوف.   فترتسم الدنيا للصغير ادغالا تسرح وتمرح فيها القردة والكلاب على انواعها.  "فالقرد "سليم" اللحام مثلا قد ذبح قردة (اي عنزة)، القرود (اي الكلاب) لا تأكل منها.  ولقد اعذر من انذر يا قرودا".  وفق ما ابلغ جده خليل.   وسرعان ما مرت الايام.  ووافى "برهوم" يوما من مدرسته كي يجد جده "خليل" ميتا تحتف من حوله الندابات.  فارتعد. ودارت الايام ووجد الشرطي "بو عيسى" ميتا قرب السنديانة العظيمة حيث كان يوافي كي يستجم.  ولحقت جدته بهم اذ آثرت ان ترقد في اثنين عيد الفصح بعد ان امتنعت عن تناول الطعام قبيل نهاية الاسبوع العظيم.  اما الخال "الياس" فقد غادر على دراجته النارية الى حيث غادر يوما النبي "ايليا".  وجده كان آخر الراحلين.  ومعهم جميعا انطوت الطفولة والاحلام الزهرية.  وبدأ "برهوم" يكتشف واقع حال الحياة المرة غالبا في "كفرنسيان".    


الجمعة، 14 مارس 2014

اسمه ديمتري






انتظرت طويلا، في ردهات المستشفى، وصولك يا حبيبي.  ولمّ اطللت يا حبيبي.  تطلّعت فيّ عميقا، ورمقتني بنظرة قبل ان تبكي بخفر.   وانت لم ترد ان تخرج بسهولة من حشا امك اصلا بشهادة طبيبك.   كان الطقس عاصفا وماطرا في الخارج.  كانت هذه المرة الاولى التي يزور الثلج فيها بلادنا منذ اشهر وذلك بالرغم من انّ الفصل شتاء.  خرجت من غرفة الولادة في عربة.  اقلتك ممرضة الى حيث يرتاح اطفال الدقائق والساعات الاولى بعد ان استكملوا مشوراهم من ومضة الى جنين ودخلوا بوابات العالم كرضّع. 

حملت آلة التصوير ورحت الاحقك. التقط لك ما استطعت من صور، كأني "باباراتزي" مجنون يلاحق اميرة.  اذ اني ما كنت قد ادركت وقتها بأني "بابا"  وليس "بابارتزي". 

علقت في عينيّ الدموع.  فحتى مجاريها اقفلت في تلك اللحظات، يا عزيزي.  وانا ما عرفت ما يتوجب عليّ قوله لك يا بنيّ.  سكنّ فيّ الصمت.  وخيّم عليّ يا بنيّ.  وصرت اصارع كي تنحلّ عقدة لساني التي ما انفكت الا تدريجيا بعد ساعات.  

كان فرحنا كبير بوصولك.  فقد ولد لنا انسان جديد في هذا العالم.  كنت صغيرا جدا الا انّ عينيّك كانتا كبيرتين جدا، وتتكلمان بما لا تعلمان يا حبيبي.  اذهلتاني تلك العينان مع شفتيك المقلوبتين ووجهك الذي راح يسطع بانوار طالما انتظرتها.  اضحى لي ابنا.  شعور غريب لا يعرفه الا من صار ابا.   ضممتك الى صدري مع امك وشعرت برغبة بالبكاء الا انّ الدموع خانتني مجددا.  وصرت اعزل من كل الوسائل يا طفلي.  فعندما ينسحر البشر ويندهشون. يخطفهم الذهول.   والذهول صمت واستكانة وتأمل يا ولدي.  استرحت لوقت قليل كأني خارج من مخاض او حرب ضروس.  فالمشاعر القوية تفرحني وتنهكني.   كنت سكرانا.  كنت غارقا في نشوة غريبة.   وانا ما احتسيت الخمر ولا قاربت حشيش الكيف البتة.  اتكون انت من سقاني مشروبا من نوع آخر يا ولدي. 

ولد لنا طفل.  وسأتلو عليه يوما من قصص جدي "حبقوق" وخالي "انطون" وجداتي "رمزا" و"ايفا" و"سلوى" و"سارة" الشيئ الكثير.

وسانتفض كعنزة من عنوزية كي أقول:

"انا عنزة من عنوزية            وقرني من حدودية

ويلي اكلي وليداتي              يلاقيني عالبرية". 

آه يا ولدي، كيف تتغيّر الادوار!! فمن كان طفلا في الامس، يدمن على القصص والخيالات، اضحى اليوم ابا يقدم لوالده ما توفر اليه منها.  لكن ماذا اقدم اليك يا طفلي؟؟  سأقدم لك قلبي وعمري وحياتي كلها يا حبيبي.  وسأكون الى جانب امك في انضاجك وثقلك كي تكبر فتؤدي ما رسم لك ان تؤدي من ادوار.  كبرت التحديات يا ولدي.  وانت التحدي والمشروع الاكبر!! نم يا صغيرا ولا تخف.  فالملائكة ستنطرك وتحميك.  ولنا آباء واخوة تصلي لنا.  وعندما تستفيق ستجد بالقرب منك حتما اما جميلة تغني لك اغنية نظمتها لاجلك وحدك.  ستفرح بوالدك ينظر اليك بحنان.  وستعشق جدتك التي ترعاك.  وستسر حتما بجدك وعمك وعماتك وخالاتك واخوالك واولادهم.  اطرب لانّ الربّ شاء ان يكون لك بيتا حصينا وعائلة محبة. 

ربي اشكرك على عطيتك.  اشكرك على الام والطفل وكل شيئ.   وليكن ابني الصغير على صورتك يا الاهي. 

 

بمناسبة ولادة بكري ديمتري في 13-3-2014




الجمعة، 7 مارس 2014

ايفلين قارئة الفنجان

امسكت "كوكو" فنجان القهوة.  ارتشفت منه الشيئ القليل، قلبته على الصحن.   وراحت تنتظر بفارغ الصبر وصول دورها كي تفك "ايفلين" لها ما تخبئه الايام.  فالمستقبل لغز، وايفلين للمستقبل خير ترياق.   فهي المرأة الاكثر نفوذا في كل "كفرنسيان" ونواحيها.   وافت "كوكو" اليها محملة بالفجل وتساؤلات.  كما قدمت الى هناك "لولو" المتفرنجة ومعها قالب حلوى يشبهها كما كانت تشتهي ان يقال لها.  فهي مازالت تظنّ بانها جميلة وصبية ومتألقة.  وكل همها اخفاء عمرها.  لذا قررت الاستقالة من وظيفتها قبل ان تبلغ السن التقاعدية بأيام كي لا يقال بأنها كبرت.  بل كي يقال بانها استقالت لاسباب وطنية.  فتشغل "كفرنسيان" كما دوما باناقتها ومعشرها واخبارها ولغتها المطعمة توابلا امريكية ولكنة فرنسية وكفرنسيانية وعصفورية.  حتى قيل انّ علماء الالسنية اضحوا يتتبعون ما تقول كي يضيفونه الى اللغة كما كانت تقول.

امسكت "ايفلين" فنجان "كوكو" وقلّبته.  فحذّرتها من انفجار طنجرة ضغط في المطبخ، كما من تسريب معلومات.  ثمّ رصدت الفنجان بتأن مجددا.   حركته كانها تحرك الكوكب الحاوي للمسكونة.  تطلعت فيه حتى دخل الى عمق عينيها.   درست كل جزيئة بن علقت.   وتتبعتها حتى نهاية الحكاية.   فخرائط البن العالق، تكشف الاسرار.   ودخلت النسوة في صمت مهيب بانتظار خروج الكلمات.  في زاوية منزلها قبع تلفاز ظهر فيه بطريرك روسيا وبطريرك انطاكيا يحتفلان معا.   رمت نظرة الى التلفاز.  وصرخت :"مسكينان لا يعرفان شيئا!!".  شدّقت فمها.  وانطلقت العلكة تدور في جنباته ما بين الاضراس.  وتابعت: "اما انا فبلا".

وكانت "لبيبة" حاضرة.  فعصفت من جوفها غازات دفيئة وغير دفيئة تسببت باحترار في الغرفة.   فاهتزّ المنزل الذي كان النسوة فيه يجلسن.  فرحنّ يرسمن اشارة الصليب على صدورهنّ، خوفا.  انبرت "ايفلين" ورمقتها قائلة: "الغمة المحشية ما عادت تناسبك يا امرأة".   فهدّأت من روعهنّ.  سألت "لبيبة" ان تعطيها فنجانها كي تقرأه لها وتصرفها.  فللغمام المحشية في الفناجين لا تطاق.  حملت الفنجان.  تطلعت فيه عميقا.  استجمعت افكارها، وصرخت: " الله يستر.  ارى شبابا جائعا الى العذارى في كفرجهل المتاخمة لناحيتكم.  شباب يتحول الى قنابل بلحظة لقضاء ليلة مع حورية او كي تتم دعوته الى وليمة.  الا فافتحوا لهم غرف نومكم يا نساء.   قدموا لهم الحنان كي تسلموا".   وامرت "ايفلين" حاكم "كفرنسيان" ان ينزل عسكره الى الشارع.  والعسكر كان كناية عن ثلاثة عناصر.  احدهم طويل وثانيهم قصير وثالثهم بصير. 

واخيرا، اختتمت الجلسة بفنجان "لولو".  وقد طلبت اليها ان تخسر وزنا.  فالموسم موسم صوم.  والصوم في عصرنا يعني "ريجيم" اي حمية للحفاظ على المحاسن.  فالمهم ان لا يدشر الرجال.  كما طلبت اليها ان تعلق حذاء مقلوبا على الشباك الموازي لجارتها كي يزول شرها. 

وكان يتردد على "ايفلين" ايضا كل من كان يريد عروسا او عريسا طالبا مشورتها.  فبيتها كان منزلا بوظائف عديدة.  وقد كان موقعه استراتيجيا.   قيل انّ مشاويرها كثرت الى العالم الجديد مؤخرا.  فعلى ما يبدو  بأنها اضحت تجني فلوسا كثيرة.  الا انّ مصدر اموالها كان مجهولا.  اضحت المرأة الاكثر نفوذا في "كفرنسيان" وكل نواحيها.  حتى قيل انّ تأثيرها المعنوي على الناس فاق بكثير تأثير الخوري وخوريته.  اشيع بأنها اضحت معروفة في نيويورك وباريس وكل عواصم القرار. 

وقد راحت تأخذ مقاسات جميلات "كفرنسيان".  وقد ساعدها ابنها "نيكي" في استعمال "الماسورة".   رفدتهنّ بخبراتها في المشي والحكي والتبرج والجمال.  فقد ارادت لهنّ ان يتقدمن لمباريات الجمال فيساعدن الاهل في كسب مصروفهنّ.  فتصير "كفرنسيان" بلدة الجميلات ايضا.  لم لا والله يحب الجمال!! ايفلين كانت بدلا عن ضائع.  والضياع كان ابن الفراغ.  والفراغ اضحى من سمات هذا عصر الحرية الفردية حتى الانتحار.  تألم "برهوم" من ذلك كثيرا.  الا انّ وحش الحضارة كان كبيرا.  اكبر من ان يغلبه انسان.  لم ييأس فقدره كان ان يواجهه في داخله وفي كل مكان.



الخميس، 6 مارس 2014

ذكريات مرصَّعة









حبيب يونس
مازن عبّود، هو الموقِّع أعلاه، على قرميد الذَّاكرة، بدهشة عيني طفل، وما قرميد دوما سوى موطئ جناح، نادته الفضاءات فما تعبت من صفقه، هو الموقع أعلاه، على مصطبة الوجدان، بأصابعَ من فراشاتٍ وعصافير، وعلى قبَّعات الشَّجر في جرد دوما، بقدمين حافيتين، وعلى حفافي الحقول، بشمسٍ من عينيه لا تعرف المغيب والأحلام، فجمع تحت جناحيه مطارح ووجوهًا وأحوالاً وشهادات. وكمن يكسر كأس عرق، جاء بأمكنة تنبع من عينين صافيتين، وبأزمنة مقطرة مثلثة أصيلة، ليطفح الكوب بقطعة ثلج من روحه، هو الموقِّع أعلاه، بحبر النُّوستالجيا، على حيطان السُّوق القديمة، وأبواب محالِّها، وأكياس الطَّحين والبرغل فيها، في هذه القرية الَّتي وعيتُ على حكاياها يرويها أجدادي ووالداي والأقارب: عملنا مشوار ع دوما تَ نتموَّن.

هو الموقِّع أعلاه بنبض النَّاس ووجوههم وقاماتهم، وبتربُّع طربوشٍ على رأس من هنا، ولِيَّة شروال تتأرجح من هناك، وبطعم عجينة زلابياء من هنالك، وبشجرة ميلاد قُطعت من إنجيل، وزينةٍ لها أُعِدَّت من قلوب وفرح... يكتب على دفتر سيجارة حمويٍّ، ولائحة قيد انتخابيَّة، وشبيَّة صلاة، وسندان كندرجي، وغبار مقلع، وبرنيطة عثملِّي، بأسلوب واحد وقلب واحد وحنين واحد وذاكرة لا ثقب فيها، لا بل مرصَّعة هي بدرر الزَّمن الجميل، قبل أن تصبح قِبلةُ النَّاس بوتوكسًا على شفاه هذه، وسيليكونًا في صدر تلك، وقبل أن تتصحَّر جبالنا، لأنَّ ثمَّة من يريد أن يعمِّر أبراجًا ومبانيَ ليُسكنَ الناس وقد ضاق قلبه بمُحبِّيه، أو يبيعَنا فحمًا نتدفَّأ عليه شتاءً، وقلبه علينا من ارتفاع سعر المحروقات، أو ننفِّخ عليها، تلك الأركيلة وثقافتِها الدَّارجة معسَّلة، بعد أن نعمرَّها ونكركر، وقد بتنا، في معظمنا، أسيادًا في الغرغرة ولَتِّ الكلام وعجن التَّفاهات.
هذه كانت حاله في الجزء الأول من الكتاب، صبيِّ المحلة الموقع أعلاه. وما بدَّل حالًا، إلا ليوسِّع دساكر القرية، فيجعلها ساحاتِ مدن كبيرة، وليعلي شجر الروح في اللقاءات، لتتظلَّلها النفوس والقلوب والقامات، وليكتب بأصالة ذاك الجرد قيم العالم.
هو الموقِّع أعلاه، صبيُّ المحلَّة، كأنَّه بطل قصَّة الدَّايم دايم، سلام عليك مارون عبود، سلام وقبلة عين كفاع، كأنَّه حكاية في حكي قرايا وحكي سرايا، ومن اسمه تحيَّة لسلام الرَّاسي وإبل السَّقي، كأنَّه رضا أنيس فريحة، سمع من أبيه كثيرَ حكايات، وعاد يستظهرها في غير مكان وزمان، لأنَّها هي ما تغيَّرت. مرحًى بفيء صنوبراتك أبا رضا. كأنَّه قصيدةٌ في ديوان شيخ الغيم وعكَّازُه الرِّيح، يعبر من ضفَّة الدَّمع إلى ضفَّة البراءة، نهرًا من دعاءات أمٍّ وعرق أب... إليك كلُّ الحبِّ جوزف حرب حيث أنت في علياء عليائك، كأنَّه عُربةٌ في صوت فيروز، وهي تغنِّي للطَّير الطَّاير على طراف الدِّني، وقد تشرَّفت بها دوما وشرَّفتها، حين استضافت عرش الرَّحبانيَّين ذات شريط سينمائيٍّ، وذات إبداع، كأنَّه كلٌّ منَّا، كأنَّنا هو جميعُه، وكأنَّ النَّموذج الذي اختاره لحكاية في ذكرياته الأنيقة حقيقةٌ من لحم ودم، قبضنا عليها بكلتا العينين وبكلا الروح والمعرفة، ذات يوم، كلٌّ في قريته أو مدينته، فرأيناها ولمسناها وحادثناها وسمعناها، حتَّى
إذا خرجت من ذاكرة صبيِّ المحلة، بدت أحلى وأشهى
وأعمق.
هو الموقِّع أعلاه، على جبين الصِّدق، وعلى نبض الحنين، وعلى أجنحة النفس والروح، يتنازل لنا، برضاه، عن كلِّ ما في ذاكرته، فيقاسمنا إيَّاه، قربانة كلمة لا يتناولها إلا المؤمنون بها، وقد غُطَّت بخمر معتَّق في خوابي أديرة الحبر.
مازن عبود، أيها الصَّبيُّ المملوءُ نعمةَ ذكريات، ترفأُ بها ثوب حضورنا التَّائه بين فعل الاقتناء والرغبة في الاستهلاك وخداع المظهر، الصَّارخ في برِّيَّة الماضي تستعيده على حصان الورق فارسًا مكلَّلاً بزيتون دوما الجليل الوقار، يا مازن، يا صبيًّا ضاقت به ساحات الحنين، لا تَرُحْ إليها وتلعبْ هناك، كفاك ترتكب طفولتك والمراهقة. تعال والعب على مدخل قلوبنا، وادخلها ساعة تشاء، وحين تتعب ويغلبك النعاس، خبَّأنا لك فيها وسادة من تفَّاح تنورين، وغطاءً من قرميد دوما، وبخورًا وشمعًا من دير البلمند، وفراشًا من نبض وطُمأنينة وسنابلِ فرح. فاستغرق في نومك، حانَ موسم قِطاف الأحلام والدَّهشات.
يا مازن... يا أبًا عمَّا قريب... قل لي، بربك: من ستحب أكثر؟ مولودك المن ورق وحبر وذكريات؟ أم مولودك المن لحم ودم وذاكرة؟
كبرت عائلة الصبي...
لكنه سيبقى صبيَّ محلة، تدور عليه أمكنة وأزمنة، تدور عليه القصص، ولا يتعب.

كلمة حبيب يونس في توقيع كتاب مازن عبود قصص وأزمنة من أمكنة، في دير البلمند 2 آذار 2014


الثلاثاء، 4 مارس 2014

كلمتي في حفل توقيع كتابي "اناس وازمنة من امكنة" في دير سيدة البلمند البطريركي في 28 شباط 2014

غبطة السيد البطريرك انتم مشكورون على رعايتكم واستضافتكم لي في افياء دير يعني لي كثيرا.
صاحب السيادة، واصحاب المعالي والسعادة، وقدس الاباء، والسادة والسيدات انتم من تجعلون هذا الاحتفال برّاقا يتلائم مع الهدف الذي صمم لاجله. 
لكن قبل ان اوقع كتابي اود ان اوجه بضع كلمات الى حجارة دير سيدة البلمند البطريركي العالق نغما ملائكيا وصورة فردوسية في يقيني منذ صغري.   
في البدء كانت روح الله على المياه نغمات حتى قبل ان تطفو اليابسة ويستولد منها بشر وكلمات.  وصار للبشر معابد.  وفيها استقرت النغمات.  فتكحلت حجارتها بقصص وتنهدات.  والى حجارة البلمند احمل اريج ارض المثلث الرحمات انطونيوس بشير.  احمل اليها شذا ذكرى صبي عانقته وصيرته حبرا لهج بربه.  واقام لجماعته صروحا من معنويات.    احمل اليها قصص "جبور" و"حبقوق" و"فوتين" وغيرهم معدلة ومكثفة.  وغالبيتهم قد رقدوا.  اطل من هناك على العالم حاملا همومها وواضعا اياها على اقدام ذلك الذي كان يوما ناصريا ومن بشرتنا.
نعم، أتراني انظر فيك يا حجارة.  اعانقك واقرأ ما بين سطورك قصصا سطرها من سبقنا.  والحاضر الا ومضة امام كم التاريخ المتراكم.  لسنا نحن الا قصة صغيرة امام الملاحم الكبيرة التي خطها قديسو انطاكيا.  ايا حجارة انك تفيضين رجاء ودروسا.  قول يا حجارة باننا قاومنا كل موجات الامحاء والتخوين في الشرق.  قول يا حجارة بانه على الرغم من العثرات في علاقاتنا مع المسلمين كان هناك مساحات تفاهم وتبادل وغنى.  قول انّ التطرف سرعان ما يزول ويبقى الاعتدال.  قول اننا صدرنا الى الغرب حضارة التفاهم والانفتاح فتبنوها هم، لكن انكون استوردنا منهم حضارة الالغاء التي اضحت لنا كما يقول امين معلوف في كتابه "الصليبيون كما يراهم العرب"؟؟
اقف عشية الصوم كي اقدم رغيفا واحدا لامة من المنكوبين.  فعمق الازمة كبير وقعر محيط دموعها المالح لا يدرك.  الا اني اقدم اغلى ما عندي.  واغلى ما عندي كلمات.  والكلمات اذ لم تشف، تبلسم وتعزي.
غدا يبدأ الصوم، ومستوعبات نفاياتنا تغصّ بالاطعمة، ولا رغيف واحد لمنكوب او جائع!!!    يطل الصوم وقد اعلن كل منّا استقلال جمهوريته عن الآلام  والمآسي المحيطة به. 
 يوافي الصوم وتحضر صورة جدتي امامي.  تلك الفقيرة التي كانت تضرب على صدرها قائلة: "ارحمني يا رب، فانا امراة خاطئة".  وانا ما استطعت ان اكتشف خطيئة واحدة صنعتها.  فقد غرقت خطاياها القليلة في بحر فضائلها.  ما كانت عالمة في الدين ولا في السياسة او الادب.  كان دينها ان تقتطع من حاجتها لاعالة الفقير والمشرد.  اشعر بحقارتي امامك يا جدتي وامام من هم من طينتك.  اشعر بعدميتي امامكم.  اليكم اقدم خربشاتي.  واقدمها ايضا اليك يا طفلي "ديمتري" الذي واشكت على المجيئ كما اهديها الى امك، رفيقة دربي صفاء.  واني اكتب من اجلك يا عزيزي كي تقرأ عن حضارة ابيك وعمك مروان وعماتك ميرنا ومايا، فتعرف كيف كنّا نعيش وكيف ادركنا العالم.  فالخشية كل الخشية يا عزيزي من ان تلتهم العولمة كل شيئ من حولك.  ومن هنا من البلمند ارفع الصوت عاليا كي لا تنمحي حضارتنا ويزول تاريخنا.  اقول باننا سنقاوم موجات الابادة والعنف والتطرف والظلم والخوف والالغاء والموت.  هذا قدرنا. وهذه معركتنا.  نعم، فمعركتنا ان نبني عالما اكثر حرية وانفتاحا ورغدا يعيش فيه الجميع بأمان. املنا ان نبني عالما يشبه السماء.


طوني مراد في كتاب مازن عبود "قصص وأزمنة من أمكنة"


مازن عبود يسمّي كتاباته خربشات ، وهي خربشات وليست كالخربشات .
الماضي في الغالب يسكننا بالأبيض والأسود ، لكنه مع مازن ملوّن ، ودود وحيّ ، كأنه للتّو .
قد يحلو للبعض القول : " فرقت على حرفين " بين اسمه واسم مارون عبود . لا هو يدّعي ولا نحن نصنّفه مارون عبود آخر . لعله مارون عبود أورثوذوكسي "لايت" ، ما يجعلني أدعوه مازينيوس . أو لعله صاحب مفكرة ريفية جديدة تستكمل ما فات أمين نخلة . مازن عبود من قلة قليلة يعنيها الزمن الجميل فيكتب عنه وكأنه يقول : إننا فيه إن شئنا .
يأتي مازن دائماً من حيث لا أعرف ومن حيث لا يأتي الآخرون .
قد يداهمني بتذكار من جبل آتوس أو بأيقونة من دير سيدة حماطورة
أو يُرفق خبرية من دوما بدعوة إلى كابوتشينو
أو يرقعك محاضرة في البيئة والصحة العامة ، ومن أين ؟ من مكتبه في الريجي !
إنه مازن عبود .
بيته في غزير علّية دومانية بناها حديثاً ، ولكن من حجر وقناطر وتراث وذاكرة وروح ، حيث تسرح اللهجة المحبّبة والمناكفات الطريفة والحب الخام .
كل ذلك لأقول : إنه مازن . هو مجموعة أشخاص وحالات في رجل ، لا هو وهو كهل ، ولا هو وهو طفل .
دوماني حيثما حلّ . مثقف محب للبيئة والطبيعة ، ولكل مؤامرة بين البشر والحجر والشجر ، وبين الماء والهواء والسماء .
يا لها من روح تقود مازن وتجرّ وراءه الحنين ، من حنايا سوق دوما وطقطقة تكنات قرميدها إلى البخور الذي يضمّخ القبب المذهبة في كنائس الروسيا وأديرة اليونان .
عاشق للحرية حتى عبوديتها. يتركها لك إذا تمنى شيئاً . يقول عندي كذا . كمن يعرض الراحة والبسكوت في أحد دكاكين سوق دوما ولا يدلّل عليها ، ولو بارت أو باخت أو باتت .
يوحي ولا يطلب ، وهو شاكر في الحالتين .
مهذب ولأنه مهذب تبدو الخطايا في أقاصيصه مغفورة والزعرنات مستورة.
ولعل ما يُغني صدقية مازن أنه مؤمن
مؤمن نيره خفيف ولطيف وشفيف
كأيقونة غير دَعيّ
قد يرى فيها أحدهم مجرد لوحة
وقد يرى فيها آخر نداء الله ، وهي رضيّة هنيّة بهيّة في الحالتين .
ومع ذلك يترك دائماً فيك ذاك الشعور بأورثوذكسية ، كما أحبها أنا الماروني الكسرواني : عناد في الحق ، ولكن ليس إلى حد التكفير أو الاتهام والتخوين .
بدأتُ بمارون عبود الماروني العلماني وأختم بمخايل نعيمة الأورثوذكسي المبكر في العولمة . وبكلاهما يذكّرني مازن .
نعيمة تنسّك الشخروب ولملم ريشاته من موسكو إلى نيويورك . وكلما أتذكّره أتذكر قصته أكابر ، حيث الأكابر يحق لهم إذا أتوا الضيعة أن ينتزعوا من صبي العائلة التي تشتغل بالشركة في أرض الاكابر ، الجدي والديك أعزّ ما لدى الصبي ومن دون أن يلووا على عويله ... لأنهم أكابر !
مازن عبود ليس بهذه القسوة . إنه في الجانب العذب من تاريخنا العذابي في هذه البقعة !
مازن عبود في يدك بعض أقفال أدبنا التراثي ، فلا تفرّط بمفاتيحها ولا تتركها فريسة الصدأ والنكران والهجران . والسلام .
 
                                                                 أنطوان مراد


الأحد، 2 مارس 2014

توقيع كتاب في البلمند برعاية يازجي

 
وطنية – بحضور حشد ملفت، وقع الكاتب مازن عبود كتابه "قصص وأزمنة من أمكنة" في قاعة دير سيدة البلمند خلال احتفال رعاه بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر يازجي ممثلا برئيس دير سيدة البلمند البطريركي الاسقف غطاس هزيم، وذلك بمشاركة ممثل الرئيس امين الجميل سايد خوري، وممثل النائب العماد ميشال عون المحامي جورج عطاالله، وممثل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ماريو صعب، وممثل وزير البيئة محمد المشنوق القاضي وهيب دورة، وممثل رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية انطوان فنيانوس، والنائب نضال طعمة، والنائب نقولا غصن، ورئيس الهيئة العليا للتأديب مروان عبّود وممثل النائب سامي الجميل الدكتور مرسال فرنجي، وممثل قائد الجيش العماد جان قهوجي العميد جورج قرقفي، وممثل الوزير السابق زياد بارود ايليا ايليا، وعميد العلاقات الخارجية في الحزب السوري القومي الاجتماعي حسان صقر، والقضاة: نبيل صاري وزياد شبيب وغابي شاهين ومنير سليمان ورئيس اتحاد بلديات الكورة المهندس كريم بو كريم، ورئيس بلدية اميون غسان كرم، والمقدم نجيب النبوت ممثلا مدير المخابرات في الجيش اللبناني، عميد معهد اللاهوت الاب بورفيريوس جرجي ممثلا مطران بيروت الياس عودة، ممثل ادارة حصر التبغ والتنباك المهندس محمود سنجقدار ورئيسي بلديتي دوما وكفرحاتا وكهنة وشخصيات وحشد غفير من المدعوين.

افتتحت جوقة معهد القديس يوحنا الدمشقي الحفل بتراتيل ثمّ كانت مداخلة للشاعر حبيب يونس، الذي قال في الكاتب: "هو الموقع اعلاه، على جبين الصدق، وعلى نبض الحنين، وعلى اجنحة النفس والروح، يتنازل لنا برضاه، عن كل ما في ذاكرته، فيقاسمنا اياه، قربانة كلمة لا يتناولها الا المؤمنون بها، وقد غطت بخمر معتق في خوابي اديرة الحبر".

ونوه انطوان مراد بالكاتب واصفا اياه "بمجموعة اشخاص وحالات في رجل"، وقال: "بدأت بمارون عبود الماروني العلماني واختم بمخائيل نعيمة الارثوذكسي المبكر في العولمة، وبكلاهما يذكرني مازن".
وختم متوجها لعبود: "في يدك بعض اقفال ادبنا التراثي، فلا تفرط بمفاتيحها ولا تتركها فريسة الصدأ والنكران والهجران".

وتناول الياس العشي فكر وادب مازن عبود "الحالم بوطن مثالي وعالم يتساوى فيه الجميع، وفسحة بيئية نظيفة تعيد الاعتبار للريف بعد ان استولت المدن على الذاكرة"، ورأى في الكتاب "مجموعة قصص قصيرة، استكملت شروطها مجموعة خواطر دافئة وثلة من الامثال والحكم، ومرور خجول على السياسة والاقتصاد والعولمة".

ووجد جورج ياسمين ان "الكاتب لم يكف عن تسلق القمم بعيدا عن الحياة المبتذلة، وهو كالسراج يشع حيث يكون، هكذا اراه في بيئته وكنيسته وصداقاته يكفر عن الشر المصنوع بيد البشر".

وتوجه الكاتب بكلمته الى البلمند: "بالرغم من العثرات في علاقتنا مع المسلمين كان هناك مساحات تفاهم وتبادل وغنى. قول ان التطرف سرعان ما يزول ويبقى الاعتدال. قول اننا صدرنا الى الغرب حضارة التفاهم والانفتاح فتبنوها هم، لكن انكون استوردنا منهم حضارة الالغاء؟ أقف عشية الصوم لكي اقدم رغيفا واحدا لامة من المنكوبين. فعمق الازمة كبير وقعر محيط دموعها المالح لا يدرك. الا اني اقدم اغلى ما عندي. واغلى ما عندي الكلمات".

ونقل هزيم للكاتب عبود تهنئة اليازجي خلال كلمة ألقاها باسمه، متمنيا له التوفيق. ونقل للحضور محبة البطريرك لهم وشكره على حضورهم. وقال: "يضع الكاتب أفكاره بقوالب قصصية بسيطة وسلسة تعكس معرفة بالواقع السياسي والاجتماعي وحتى الديني. وهذا الكتيب يعكس منظار ابن الضيعة، ابن دوما. احب ضيعته التي عشعشت في كيانه وانعكست في افكاره فأطفت عليه لمسة مرهفة".

أضاف: "يتميز كاتبنا في الطرح بالربط ما بين الماضي والحاضر ليظهر ألما على تغيرات في المجتمع الى الاسوأ. وهنا يقتبس من الماضي ما هو جميل ومملوء من الالفة والحرارة واحترام الآخر وقبوله، فواقع اليوم أصبح مصطنعا وقائما على المصلحة وممنوع فيه الاختلاف الذي تميز به لبنان وجعله جنة غناء. أما في الشأن الكنسي، فإن دل على شيء يدل على إنسان أحب كنيسته ونما فيها ملتزما قضاياها وارادها عروسا بهية ناصعة نصوع ثلج لبنان وشامخة شموخ أرزه".

ولفت الى "طرح الكاتب التقاليد الكنسية لا بل حتى الاجتماعية، بخاصة اننا نسمع اليوم اصواتا تنظر اليها انها من الزمان الغابر ولم تعد نافعة، فالايمان قائم على العقلانية والمعرفة. أليست هذه التقاليد تعبيرا عن الايمان بطريقة شعبية؟ وكاني اقول بان الزجل او الشعر او المسرح وغيرها ليس فنا تعبيريا. الم يخلق الله الانسان بحواس خمس كلها مقدسة وتساهم بتقديس الانسان؟ هل الانسان فكر ام كل ككل؟ بساطة الايمان هي العمق بذاته، فان لم نتعلم اسلام القلب لله عندها يصبح العلم انتفاخا".

ونقل شكر هزيم "الهبة التي تعبر عن محبة واحساس بالآخر، فريع الكتاب يعود لدعم صندوق البطريركية المخصص لمساعدة المنكوبين".
قدم للاحتفال السيد جورج نجم الذي اختتم كما استهل بترتيل لجوقة يوحنا الدمشقي قبل ان توزع لفتات تكريمية الى كل من ممثل صاحب الرعاية- الاسقف غطّاس هزيم
وممثل رئيس لجنة ادارة حصر التبغ والتنباك ناصيف سقلاوي - عضو اللجنة م.  محمود سنجقدار وحسّان صقر وجورج ياسمين وانطوان مراد وحبيب يونس وجورج نجم.قبل ان تتم دعوة الجميع الى استقبال بالمناسبة.