الأربعاء، 4 يونيو 2014

القمة

قال "برهوم" لجده:" جدي لماذا لا تأخذني الى الجبال معك؟   فهناك تهمس الريح في جوف الوهاد اسراها.   فتخرج  منها صفيرا كصفارات قطارات العودة.
 خذني جدي الى سقف" كفرنسيان" حيث تلامس السماوات الارض، والى حيث تصعد الطائرات كي تأخذ الناس بعيدا. 
خذني الى حيث بنى الملك له قصرا على تخوم بلاد الانس وعلى مقربة من بلاد الجان. 
خذني الى هناك كي اقطف الشمس واجلبها الى المنزل في كانون مشعة دافئة فيفرح بها كل من في البيت. 
خذني فقد قيل لي ان هناك ثمة سلالم يتسلقها الراقدون كي يصلوا الى دنيا الفرح والاحلام.  فهناك قصص "هايدي" و"فلونة" وكل انواع الخيال. 
اريد ان ارتمي في حضن غيمة تحملني فوق "كفرنسيان" فاعاين الدنيا من فوق.  وارعى مع غنمات الغيم عشب البقاء. 
خذني الى هناك فصوت جدتي الراحلة يناديني.  خذني الى هناك ف"ام رعيدي" قد همّت بتنظيف الارض.  واني اريد ان القي عليها التحية".
لم يجب الجد. بل صار يهز رأسه ويفكر.  فأصر عليه "برهوم" قائلا: "او ليس كرم الشمس قريبا من هناك؟؟ خذني معك الى الكرم".
ما اراد الجد ان يجهض احلام حفيده.  كما انه ما كان يرد له طلبا.  فاجاب: "الا فاستمر في الحلم في القمة يا بني.  فحين تبلغها تميتها.  ولا تعود قمة.  تهجرها الاحلام وكل كائناتها الاسطورية.  فلا يعود الحلم يستوطنها.  وتهجرها "ام الرعد" يا ولدي.  فتضحي حقيقة مجردة وناشفة ومفزعة احيانا، لا تشبه تطلعاتك يا بنيّ.  ليس المهم ان تتسلق القمم بل انّ الاهم ان تصبح انت قمة في تواضعك وفضيلتك.  فيسكن الله فيك عندها.  ويسكنك فيه.  و هذا الهدف من الوجود يا ولدي.  لن ابقى معك طويلا يا ولدي، لاني راحل غدا الى حيث تحوم النسور والى حيث اتسلق السلالم.  لن يكون بمقدورك ان تذهب معي لانّ دورك لم يحن بعد.   لا تخف اذا ما غبت عنك.   فانا قد قررت الرحيل".
وصار "برهوم" يبكي.  فطيّب الجد خاطر الحفيد وداعبه قليلا قبل ان يعده بأن يأخذه معه الى "كرم الشمس".  لم لا و"برهوم" لم يتلكأ يوما عن حمل زوادة من المنزل الى الدكان.  وكان الجد يكافئه بمنحه ليرة لبنانية لا غير يشتري فيها الصبي من بوظة "جمول" الشيئ الكثير".    واصطحب الجد حفيده صبيحة يوم معه في رحلة الى القمة حيث اراه العالم.  وعالمهم كان "كفرنسيان".  هناك اقترب "برهوم" من الغيوم، ولم يبلغها.  عاين الشمس ولم يجاروها.  فتش عن السلالم ولم يجدها.  ما استطاع ان يلتقط من الجو حتى طائرة واحدة.  ولم يجد ام رعيدي.  فايقين عندها انّ القمة هي فينا.  وانّ القمم تزول حين تطأها اقدام البشر.  وامسك الجد  بحفيده وسأله ان يركع ويستمع الى الريح.  وتطلع الجد الى العالي الى حيث تستقر الشمس وسأل روح الكون قائلا: " يا الهي هبه روح القمم فلا ينزلق في هوة الشهوات.  ازرعها فيه فيصير القمة بفضائله.   وانت يا ريح لا تهجريه، فيهجره الخيال.   اعطه ربي ان يكون حرا ابدا".  وتطلع الشيخ بحفيده واردف: "تعال الى هنا في كل مرة تشعر انك مكبل فتدرك انك حر.  تعال الى هنا واترك كل شيئ تحت وخاطب من تشاء ممن رحلوا.  خاطبني.  وانك حتما ستكون مستجابا".  انتهى المشوار.  واقلع الصيف ووافى الخريف.  فعاد "برهوم" عصر يوم من مدرسته.  وجد جده مسجى وحوله النساء نادبات.  لمحه من شباك المطبخ حيث كان يلوح له بمحفظته مبلغا اياه انّ يوم الدراسة انتهى. 
صرخ له فما اجاب.  فهام الصبي في البرية لساعة او اكثر.  راح يبكي وينادي الجبال التي ما اجابته.  صار "برهوم" وحيدا.  فمن كان يمده بالدعم والحب والمشورة ذهب كما قال.  وهو كان قد تعوّد ان يقتات حبا واحلاما واخبارا.
 وبعد رقاد جده، راح الصبي يكبر.  وقد علق في باله كم جرى طويلا وراء ذلك الصندوق الخشبي حتى التربة.  فقد عاين بام العين كيف تنتهي الرجال، وقصصها وذكراها لا تنطفئ.  عقد النية ان يكون قمة في التواضع والفضائل وفاء لجده.  الا انّ ذلك لم يكن سهلا.   فما زالت امامه مسافات كبيرة كي يصير "قمة رافع" التي تجاور كرم "الشمس" الذي اراد جده له ان يكونها.   وصار يسأل هل استطيع يوما ان اصبح ما قطعت عهدا ان اكونه؟؟  آه كم انّ العهود صعبة والقمم اصعب.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق