الاثنين، 10 سبتمبر 2012

من أقوال مغادر

وقف ظلّي امام صندوق جثمان نسيبه العائد من الاندلس، ذاك الذي كبره ببضع سنوات. راح يتأمّل وجهه عبر زجاج الغطاء، فشعر بالروح تحرك يده وتنطق به على لسان مَن مضى. فسمع ينطق: "هذه الاقوال يقولها غابي، في يوم عودته الى دياره، الى ابيه وامه: "ها انا يا اهلي اعود من جوار غرناطة صندوقا يستقر، وللأبد عندكم ها هنا. لا تلوما الاقدار، لأنّ السنونو المغادرة اخذتني منكم في ايلول، من دون استئذان. اعود اليوم اليكم فأستلقي حيث العين التي تجاور المدافن، وتذرف دموع التوبة بالنيابة عن كل من غابوا. اعود كي استقر قربكما يا ابي ويا امي، وانا لم احظ بمثل هذه الفرصة قبلا، فرياح الغياب سرقتني واخذتني منكما الى قدري، الى بلاد الاندلس باكرا جدا، فصار لي عائلة واصدقاء. آه كأنّ مشوار ترحالي الى هناك حصل البارحة ليس الّا. رضاكما عليّ يا والديّ. فرضاكما اساس التوفيق هنا والى حيث انا راحل. واعذريني يا اختي على عودتي المفجعة، فانا لا استطيع الابتعاد اكثر عن الارض التي ولدتني. لا تبكوا كثيرا عليّ، بل تضرعوا من اجلي كي يتقبّلني القدير في دنياه. البارحة وافاني شفيعي وشفيع جدي، رئيس الملائكة العظيم جبرائيل، وافاني على غفلة وابلغني انّ الساعة قد حانت. فرحلت على عجل. همس في اذني مُبلِغا انّ مريم التي بشرها بولادة المخلص، والتي ذاقت لوعة موت ابنها على الصليب، ستبلسم جراحك يا امي، وستكون ملجأك يا ابي. ثمّ تطلع بي سمعان العامودي ورفعني معه الى فوق، الى أبعد من عموده. رفعني الى حيث مضى. لا تسألا لم؟ وكيف حصل ما حصل؟ فإنّ الذي يرتب كل شيء عالم بما يعمل. أستمحيكما عذراً واقبل أيديكما قبل ان ادخل الى التراب التي منها صنعت، فأخرجت طفلا من حشاك يا امي. أستمحيكما عذراً وأقبّل اهل الحي والاقارب والاصحاب فرداً فرداً، انا الذي لم يسمع لي صوت يوما. وتراني اقول لكلّ من احبني: اذكرني في صلواتك اليومية، انا الوجه الباسم والهادئ الذي ما ازعج احدا يوما. اما انت يا ربي ويا الهي، فتقبّلني اليوم في ملكوتك، انا الذي ابتعدت عنك من دون ان اتغاضى عن تعاليمك يوما. اقول من عمق نفسي: ارحمني يا الله. يا من انت عالم بأحوال من ذهبوا وهم في نصف ايامهم. اذهب اليك وانا مدرك حُنوّك وعطفك ومودتك للبشر. اضع على رجليك شهرتي، واصرخ: ارحمني يا رب انا الذي عملت في حقولك. اني ارى نفسي اليوم ادخل الى عربة من نوع آخر، عربة لا اقودها، بل يقودها شفيعي والملائكة. فانا قد اعتزلت قيادة السيارات المجنونة منذ لحظة رقادي، واصبحت اميل الى ارتياد عربات الملائكة، انا الذي امتهنت قيادة سيارات السرعة. اما انتم يا رفاقي، يا معشر من برهنتم انكم اخوة من غير لحم ودم، أودّعكم جميعا واشكركم على قدومكم لوداعي. اني استمحيكم عذرا الان، فقد طال سفري وحان وقت الرقاد. فالى اللقاء، الى اللقاء لأنّ الدرب التي امضي فيها اليوم هي دربكم ايضا. فانتبهوا كي لا تقعوا في تجربة، واعلموا انّ العمر ظلّ ليس الّا". انتهى الخطيب من تلاوة الرسالة، فعلا التصفيق على غير العادة في تلك المناسبات. فقد قيل انّ طنين الكلمات وصداها رددته نسائم ايلول وتناقلته سنونواتها الراحلة الى المجهول. فاعتقد الناس، لوَهلة، انها قررت البقاء؟؟ لكن الرحيل قد كتب على أجنحتها كما كتبت على جبين البشر قصصها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق