‏إظهار الرسائل ذات التسميات Cities. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات Cities. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 18 يناير 2011

غـــزة الـمـحـاصــرة فــي عــيــون مـغــامــر مـن لـبـنـان




غـــزة الـمـحـاصــرة فــي عــيــون مـغــامــر مـن لـبـنـان
قـفــص كـبــيــر وقـنـبـلــة مـوقــوتـة... وفـقــر يـولّــد الـتــطــرف ويـلــغـي الـتـنــوع


ما شكّل مشوار غزة لي يوماً رحلة سياحية او مسافة زمنية في موقع جغرافي لزوم الاستجمام والسياحة، كما اني ما خططت يوما ان اذهب اليها. الرحلة اتت اليّ، فهزّت سلامي، وما استطعت ردّها. أتت في موسم الميلاد، فأمست فرصة لمعاينة وجه ربي في اطفال الحروب والبؤس والحرمان هناك. كما لم تنفك ان تكون تلك الزيارة، مغامرة هدفت لخرق حوائط التاريخ والجغرافيا، بغية الاطلاع على اوضاع اكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني محتجزين يقبعون وراء جدران وحواجز صنعها الاحتلال او صنعتها السياسة والخصومة في ما بينهم.


أردت ان اعرف كيف تكون غزة. أتكون "قندهار" العرب كما ابلغت، ام انها قصة من نوع آخر؟ أردت أن أجول في بعض من فلسطين التي شكّل اغتصابها أولاً في عام 1948 وثانياً في عام1967 منعطفا في تاريخ السلم والسلام العالميين، بحيث أضحى العالم غير آمن من بعد. كيف لا والنكبة هزّت بلدي وجمهوريته الناشئة التي تداعت اساساتها الى غير رجعة، وما نعانيه اليوم في ارضنا ليس الا انعكاساً لكل ذلك.


أردت أن أفهم كيف تجاور مصر اسرائيل وماهية سيناء وحروبها. اردت ان اكتشف الصحراء وقناة السويس، ومن ثم اشرب من بحر غزة كي احدد درجة ملوحته، وقد بلغني انّ الرئيس الفلسطيني المرحّل ياسر عرفات، كان يقول، وفي شكل متكرر: "ومن لم يعجبه فليشرب من بحر غزة". أيكون بحر غزة، الذي قذف بجهاد الوزير طفلاً والشيخ انور ياسين والطفل الدرة، اكثر مرارة او ملوحة من بحر صور وصيدا والصرفند؟ كما اني اردت ان اكتشف لماذا؟ اتكون دموع اهل القطاع قد ملّحته بالمآسي، وآخرها كان حرب كانون الاول عام 2008 التي استعملت فيها الاسلحة المحظورة دوليا على انواعها؟ من انت يا غزة يا بلد "شمشوم الجبّار" كما يقول عنك اهلك؟ من انت يا شعباً يذوق كل يوم كؤوس المرارة من دون ان ينهار؟
الرحلة


كانت رحلتي بدعوة من تجمع الاطباء في لبنان، فكان ان توافر لي الغطاء اللازم للمغامرة. انتقل وفدنا جواً، فجر نهار خميس، من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. وقد تعرفت في ارض المطار على اعضاء الوفد المؤلف من: الدكتور نجيب حمادة (جرّاح اطفال من راشكيدا-البترون)، الدكتورة عزيزة احمد ابراهيم (صيدلانية من عيناتا- بنت جيبل، عرف عنها بأنها ضحّت بمحتويات صيدليتها في حرب تموز 2006 من اجل اغاثة الناس. فأضحت اليوم، بلا عمل)، والسيدة كاملة احمد خازم (ممرضة قانونية من عدلون-الزهراني، استدانت كي تأتي الى غزة، تاركة وراءها اولادها وزوجها).
وصلنا ميناء القاهرة الجوي صباحاً، وقد كان مندوب سفارتنا في القاهرة بالانتظار. أُنجزت التدابير الادارية واستقلينا الحافلة في اتجاه هدفنا. واكبتنا قوى الامن المصرية حتى وصولنا الى معبر رفح. وكنّا عند كل موقع ننتظر تبديل المواكبة. الاجراءآت المصرية تميزت بالاحترام والحذر الشديديّن.


وكان ان عبرنا سيناء وقناة السويس. فوافاني طيف الزعيم جمال عبد ناصر مستعرضاً انجازاته واخفاقاته من تأميم القتال الى الحرب والهزيمة. لقد كان صوت "ام كلثوم" مركبة عبوري الى التاريخ الحديث الذي افضى الى سلم كامب دايفيد. وكان ان خاطبت رمال صحراء سيناء قائلا: "كم انت قاسية يا صحراء، تبا لك! كم التهمت من البشر بدءاً من اهل موسى من العبرانيين وصولا الى جنود العرب!". كانت الصحراء رمالاً ومساحات خالية، تمكنت اسرائيل من ضبطها من فوق، عبر سلاحها الجوي الذي لا يقهر. فمن يمتلك الجو يحتل الصحراء عادة...


وصلت غزة ارض "شمشوم" مساءً، اي بعد عناء سفر ومشقّة استغرقا زهاء الست عشرة ساعة توزعت ما بين مطاري بيروت والقاهرة ونقاط التفتيش ومعبر رفح. استقبلنا مندوبو سلطة حماس باحترام وحرص امني شديدين. وكان ان اوصلونا الى المستشفى الاوروبي، مقر اقامتنا للاستراحة من عناء السفر. استراحة طالت حتى عصر اليوم التالي بسبب عطلة نهار الجمعة.
في غزة
باشر الوفد تنفيذ مهمة لا تتجاوز مدتها الزمنية الاربع وعشرين ساعة فعلياً، غروب يوم الجمعة. وقد كنت مهتماً بتقييم الوضع البيئي الحالي في القطاع على اثر الحرب الاسرائيلية الاخيرة عليه، كما بدراسة وضع الاقليات فيه. اتممت الجزء الاول من المهمة من دون ان اتمكن من القيام بالشق الثاني منها، الا انّ وزير الصحة في حكومة حماس الدكتور باسم نعيم، وصلني عبر الخلوي بالأب مانويل مسلم وهو كاهن لاتيني كان يخدم هناك، حيث سألته عن اوضاع جماعته. فأجاب بأنها على ما يرام وتشبه اوضاع الشعب الفاسطيني عامة.


الوضع البيئي في القطاع
كان الوضع البيئي في القطاع مخيفاً، اذ ان 90 في المئة من آبار غزة (4000) لا تصلح للشرب او حتى للاستخدام، وهي ملوثة بفعل مياه الصرف الصحي. وأُبلغت انّ غزة تستهلك سنويا من المياه الجوفية مليوناً ونصف المليون متر مكعب يتم تعويض نصفها فقط من اجمالي المتساقطات على القطاع. وتستهلك الزراعة نصف الكمية المستخرجة، اي ما يقارب الخسارة الواقعة سنوياً في الخزان الجوفي. اردت ان اوصي الغزاويين بايقاف الزراعة حرصا على استدامة مخزونهم من المياه العذبة في ضوء عدد سكان القطاع المتنامي. الا اني ما استطعت الى ذلك سبيلا، فالجوع قد يضحي كافراً وفتّاكاً في ظل حصار قد يشتد عند الحاجة. كما أُبلغت ان مياه بعض الابار قد بدأت تملح جراء الإفراط في استخراج المياه الجوفية مما ادى الى تسرب المياه المالحة من بحر غزة، وانّ تربة غزة هي في غالبيتها، بموجب تقرير جامعة جنوى الايطالية، ملوثة بالمعادن الثقيلة واليورانيوم المخصب. وقد تمّ إمطار القطاع بثلاثة ملايين كيلوغرام من الذخائر اي بمعدل 8220 كيلوغراماً لكل متر مربع.


اما على صعيد الزراعة، فقد أبلغت انّ اسرائيل ازالت، ابان حرب عام 2008، ما يقدر بمليون واربعمئة الف شجرة يتم العمل حاليا على استبدالها بشجيرات الزيتون والنخيل، وان الدولة العبرية قد قصفت محطات تكرير الصرف الصحي والآبار وشبكات مياه الشرب، مما ادى الى تلوث الآبار والتربة بالمياه الآسنة.


أما هواء غزة فليس افضل حالا، هو يغصّ بسموم دخان النفايات التي يتم التخلص منها بالحرق بسبب صعوبة الوصول الى مكب "GTZ " الواقع في المنطقة العازلة. وتشكل النفايات الطبية مصدر قلق متزايد للسلطات الغزية. كما يشكل التسمم بالرصاص همّاً حقيقياً هناك.
الوضع الاجتماعي


ادركت ان قطاع غزة، قفصاً كبيراً يحوي اناساً تزداد حاجتها الى الاطعمة يومياً. عرفت غزة فسحة يتوالد فيها المسجونون الفقراء بمعدلات تفوق 35 في الالف. سجن تتعدى نسبة الفقر فيه الثمانين في المئة، بحسب ارقام السلطة.


ثلثا مساحة القطاع البالغة 365 كلم2 تستضيف اكثر من مليون ونصف المليون بشري يتجمهرون بمعدل وسطي يتخطى 4200 فردا في الكلم الواحد. كثافة سكانية قد تصل الى العشرة آلاف شخص في الكلم2 الواحد كما في مخيم جباليا مثلاً.


احسست انّ حماس كانت ممسكة بكل اطراف اللعبة في القطاع، وقد تفلتت من الرقابة الاسرائيلية الجوية، عبر بنائها خنادق وانفاق تحت الارض كانت تتقن ادارتها، خنادق تؤمن لها المورد والملاذ.
وغزة المعزولة راحت تغرق اكثر فأكثر في التطرف الديني الذي كانت حكومتها تضبط ايقاعه جيدا. حصار، ما ابقى لغالبية اهل غزة الا الاكل والتكاثر والجهاد، وقد قضى على كل اشكال التنوع في المجتمع الغزاوي.


لقد كان وضع نصف مجتمع غزة العاطل عن العمل، مأسوياً. اما النصف المتبقي، فقد كان يعمل في غالبيته لحساب حماس او سلطة رام الله.

تأثيرات حرب اسرائيل على غزة بدأت تظهر اكثر فأكثر. فقد راحت تداعياتها تظهر مع ايامنا هذه امراضاً وتردياً في معدلات العمر واطفالاً تولد مشوهة. الا انّ مفاعل غزة البشري ينتج قنبلة ستدمر الدنيا ان انفجرت.
كذلك التقيت طفلاً من اطفال غزة، وهو ابن رئيس بلدية خان يونس صلاح الدين الخنسا، وقد بلغ من العمر سبع سنوات. حاورته كي اختبر نموذجاً من اناس القطاع المستقبليين. سألت الصبي عن احلامه، فأجاب: "استعادة القدس". ولما سألته عن طموحه، اشار الى انه يسعى لأن يكون شهيداً. وعن العابه ومغامراته، رد قائلا: "حفظ القرآن". كان اطفال غزة على ما يبدو يفتقدون الى الالعاب والى فسحات الامل. وقد جعل اهلهم منهم رجالاً صغاراً، لا مكان لديهم للعب والاحلام الطفولية. كان اطفال غزة يتحضرون كي يكونوا مشروعات انتحارية في ظل انسداد افق دنياهم، ويحفظون في لاوعيهم طيف "محمد الدرة" الذي مات في حضن والده برصاص الجيش الاسرائيلي، فصاروا يخشون الطفولة ويستعجلون الرجولة.


ومضات
وسط الحصار والازمات تبان عليك ومضات. فشعب القطاع استطاع اكتشاف وسائل وطرقاً للتصدي للحصار ولتطوير مقوماته. وسائل وطرق يجب التوقف عندها ودراستها بتمعن. وما لفتني هو غياب آثار الدمار، فالمباني المهدمة، جراء اعتداءات عام 2008، اعيد تدوير موادها، كالحديد الذي اعيد استعماله. وحتى الباطون المتداعي قد اعيد تحويله الى حصى، لزوم صيانة الطرق في ظل منع دخول مواد البناء.


عاينت ايضاً كيف تقوم السلطات الغزاوية بتنمية مواردها الزراعية عبر استبدال الزراعات المستهلكة للمياه، والتي نمّتها اسرائيل سابقا كالفريز والورود، بزراعات تتطلب حدوداً دنيا من المياه، ويمكن تخزينها لفترات طويلة كالزيتون والنخيل. كما زرت "المحررات" التي تستخدم مساحاتها اليوم كمشاتل للزيتون والنخيل او كفسحات للزراعات العضوية وتربية السمك النهري والبحري، وتفقدت محطة التكرير الاولية للمياه المبتذلة على شاطئ خان يونس، فسررت بارادة الشعب الغزاوي المحب للحياة والرافض للموت واليأس.


تجربة قاسية
تجربة غزة كانت قاسية عليّ. فبلد شمشوم عتية وحزينة. عتية لانها جعلت جيش الدفاع الاسرائيلي يفر منها هارباً، وقاسية لانها أشعرتني بالأسى على الناس العاديين في ازمنة الحروب والازمات والتطرف. جزعت كثيرا لمّا رأيت بعضاً من واقع غزة في قدر بيروت. فصليت عميقاً في صمتي ان يبعد الكأس المرّ عن بلدنا!

الا انّ مشوار غزة عزز قناعتي بضرورة العمل على ايجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يبعد الغبن الذي يولّد تطرفا يهدد السلم. رحلت عن غزة وعيني ستبقى على اطفالها ونسائها واناسها المظلومين الذين تنهمر دموعهم أنهراً تصب في غمار بحرها، فتزداد ملوحته. رحلت عنها واصوات ناسها الداعية الى رفع الحصار تطنّ في اذنيّ. رحلت عنها وصورة الطفل "محمد الدرة" لا تفارق بالي، وقد امتزجت مع صورة يسوع المولود في مغارة في بيت لحم.


تركت غزة، وانا ألعن الحصار الذي أتت مفاعيله معاكسة لاهدافه المعلنة. رحلت عن القطاع وفي بالي ان اكتب عن بؤس اهله، علّ ضمائر الناس تتحرك. تتحرك، فيتحرك معها حس القرار من قياديي منظمة الصحة العالمية وبرنامج الامم المتحدة للبيئة، فتدان عندها الدولة العبرية في المنابر العالمية الدولة العبرية لاستعمالها اسلحة محظورة دولياً ضد المدنيين ولانتهاكها شرعة حقوق الانسان
مازن عبّود

الاثنين، 27 سبتمبر 2010

هتلر وفينّا ومعهد الصحافة في ايلول العام 2010




هتلر وفينّا ومعهد الصحافة في ايلول العام 2010
بقلم مازن ح. عبّود

"

الكسندر(قيصر روسيا) ينكح عن كل المشاركين، فريدريك ويلهيم (امبرطور بروسيا) يفكر عن الجميع، اما فريدريك الدانمارك فيتكلم بالنيابة عن الجميع، وماكسيميليانو بافاريا يشرب عن الجميع، فريدريك ورتمبورغ يأكل عن الجميع، اما امبرطور النمسا فيدفع اكلاف كل المشاركين".
من اقوال اهل النمسا في مؤتمر فينّا في العام 1814


ما ذهبت الى فينّا كي اغطي المؤتمر الذي اعاد تنظيم اوروبا بعد تنحي نابوليون في العام ، كما اني لم اوافيها كي ارقص الفالز في قصر آل هاسبورغ اباطرة هنغاريا والنمسا. لقد توجهت الى مدينة موزار وهايدن وشوبرت تلبية لدعوة معهد الصحافة العالمي لحضور اجتماعاته
السنوية التي تتزامن واحتفالات يوبيله الستين




في فينّا
لقد كانت فينّا في بالي ارض "Sound of Music " التي اجتاحها هتلر ببربريته عام 1938. كما علقت في رأسي نغما لهايدن و انشودة " Ave Maria" لشوبرت، التي عشقت ادائها يوم كنت تلميذا ينشد في فرقة الجامعة الامريكية في بيروت. كانت فينّا اناء اصداء نغمات “Requiem” موزار، ذلك العمل الرائع الذي لم يستطع اماديوس انهائه، والذي قال فيه بأنه سيكون لجنازته لا لجنازة من استأجره لتأليفه ونظمه.
الا انّ فينّا كانت ايضا بلد فرويد المخيف بنظرايته وبلد الاباطرة ليوبولد الاول الذي درء العثمانيين عن اوروبا في نهاية القرن السابع عشر وجوزيف الثاني الذي ادخل اصلاحات ريادية امبرطوريته.

لقد احببت ان اكتشف واتلمس كل شيئ في المدينة التي كان اساس ازدهارها مبنيا على فدية قدمت كي يحرر قلب الاسد-ملك بريطانيا بعد ان اسر فيها على اثر عودته من اورشليم مكسورا، ابان الحملة الصليبية.
ما من احد اتقن طرق التجارة في اوروبا كما اتقنها يهود فينّا. ففينّا العظيمة هي ليست الا صنيعة التجارة بعد ان كانت ثكنة عسكرية رومانية مع بعض كروم العنب ابان القرن الاول ميلادي



هتلر في قصر هابسبورغ
وصلتها صباح وقد آثرت ان استحم من وهن السفر ومشكلات فينيقيا وارزها. وكان قصر آل هابسبورغ الذي من حوله توزعت المدينة هدفي. لقد كان ذلك القصر كبيرا اذ فاق عدد غرفه الالف ومايتي غرفة وقد بني على مراحل. ورحت اتفقد الجناح الملكي للقصر وخرجت الى الشرفة التي حلّ طيف هتلر- الفوهرر ضيفا عليها في الخامس عشر من آذار من العام

1938.
وطنّت في اذنيّ كلماته الشهيرة للجماهير المتحلقة من حول عامود اركي دوك كارل : " كفوهرر للرايخ وكمستشار لالمانيا ادون في سجل التاريخ في هذه اللحظات انضمام النمسا الى الرايخ ...".

الا انّ صورة الفوهرر اختلطت بصورة الفتى الفقير الذي كان يجرف الثلوج من امام العربات القادمة الى القصر الامبرطوري لزيارة آخر اباطرة المملكة الهنغارية النمساوية المقدسة.

وهتلر لم يواف قصر ال هاسبورغ في ذلك الربيع، حيث جمع اصدقائه القدامى واركانه من حوله في كنف الجناح الامبرطوري وراح يستذكر تاريخه الصعب في فينّا، الا كي يقول للصبي الفقير والمعدم الذي كان بأنه قد اضحى هو نفسه امبرطور اوروبا الجديد
.
وخلد هتلر ليلة واحدة في غرفة الامبرطور على امل ان يعود الى القصر مجددا الا انه انشغل في حروبه وما عاد اليه البتة. ففرحته كانت لليلة واحدة ولارضاء حلم قديم



كاتدرائية وعظيم
واجمل ما هو في محيط القصر كانت كاتدرائية استفانوس التي جعلتني اشعر بقوة حضور الله في حياة اناس تلك المدينة. فالكتدرائية كانت الاكبر والاجمل في اوروبا، فترة انجازها، وقد نفذّت وفق النمط الغوتي.
اتت الكاتدرائية صاعدة في تصميمها نحو الله ،وصورة لسمائه. والنمط الغوتي في العمارة يرتكز في فلسفته على حمل البشرية الى السماء بعد ان احجم الله عن القدوم الى الارض في العام
1000 ميلادي (المجيئ الثاني)، كما كان شعب اوروبا يتوقع.

دخلت الكاتدرائية الرائعة، فجثوت في غمرة الانغام، ورحت اتأمل في جمال التصميم وسحر المكان. ما ادهشني كان الاورغون الذي قيل فيه لمصممه، بأنه سينهار لعدم قدرة قاعدته على تحمل وزنه. فكان ان حمل تمثال المصمم الالة على منكبيه في تحد واضح للنظريات المعاكسة الى يومنا هذا
.
لقد كانت تفوح من كل زاوية من زوايا الكاتدرائية النغمات الموسيقية واصوات مرتلي فرقة فينّا للانشاد التي كان الصبية فيها ينشدون فيها ايضا السوبرانو. صبيان كان يخيّرون ما بين الخصي عند بلوغهم او فقدان العمل والعودة الى الشوارع والجوع والعوز. والخصي كان ضرورة للحفاظ على ميزاتهم الصوتية
.
وانبعث من حوائط المكان اصوات اولئك الصبية. ثمّ ان انغامهم كانت تختلط بتمتمات المؤمنين وومضات الشموع المضائة حول ايقونة للسيدة قيل انها حمت المدينة من غزو العثمانيين في عهد ليوبولد الاول، وبالتالي "اسلمة اوروبا" كما يقولون.

الا اني ابلغت انّ عدد الشموع المضائة من حول تلك الايقونة الرمزية قد تزايدت في السنوات الاخيرة.

كما انّ اكل حلوى الكوراسان التي تمّ صنعها على شكل الهلال العثماني احتفاء بصد الغزوة العثمانية سيتضائل. فاوروبا القديمة تبدوا عاقرا لا تتكاثر اعراقها، وقد اضحى سقوطها وشيكا من الداخل بتراجع القيم التي كانت في اساس حضارتها وتمايزها اصلا

قلّما شعرت بهذا الكم من الوقار والايمان في كاتدرائية غربية كما ادركت في ذلك المكان. وتمتمت في صمتي مع ارواح اجواق المرنمين الراقدين ترنيماتهم الخالدة. ترنيمات كانت من راكويم موزارت او انغام هايدن السماوية.

ثمّ لمحت شوبرت يدير فرقة فينّا للترنيم، وابصرت صبيا ينبري من فرقة الصبيان للانشاد يصدح بترنيمة " Ave Maria". كنت بين الحضور الواقفة فشعرت بانبهارهم، ثمّ اختلطت تلك الرؤية باصداء جوقتنا- فرقة ترنيم الجامعة الامريكية ابان الدراسة. فقابلت كل وجوه رفاقي من تغربوا اليوم
الاسامبلي هول، كاتدرائية ستيفين، وليمة الحمل...، امكنة اختلطت في مخيلتي وامتزجت بالازمنة. فكل شيئ يتعرى في حضرة الخالق الذي يتظهر ايضا نغما ونسيما عليلا!!!
ثمّ كان ان توجهت الى الكنيسة السفلية للكاتدرائية التي شهدت لمراسم جنازة موزار، ومعاصريه.

جنازة قيل انّ الامبرطور جوزيف الثاني حضرها شخصيا فقال بالموسيقي الراحل: "لكثير الكثير من النغمات يا عزيزي موزار". والجنازة تلك جرت مع حلول الليل وفق التدبير الجديد لمراسم الدفن.
اما جسد ذلك الموسيقي فقد قيل انه لفّ بكتان ووضع في حفرة كلس في المقبرة العمومية خارج اسوار المدينة، كجزء من الاجراءآت الاحترازية التي امر بها الامبرطور بغية درء انتشار الاوبئة في المدينة التي عانت الكثير جراء ذلك تلك الايام.

فكان ان اضحى موزار نغما في اثير فينّا، ومن دون اثر لبقاياه المادية. لما لا فالمادة تنمحي اذا ما هامت الروح وامتزجت بروح الكون، فأضحت انغاما وسمفونيات خالدة


مؤتمر معهد الصحافة
الكاتدردائية والوسط القديم جعلت فينّا تضحي في كياني، بعد ان توقفت اجول فيها بسبب مشاركتي في اعمال مؤتمر معهد الصحافة في عيده الستين.

والمؤتمر اتى كي يقول لهذا العام، انّ حرية الاعلام قد بدأت تتأرجح حتى في اوروبا التي طالما كانت جنة حريات الرأي.

والاعلام عادة يهتزّ في فترات الحروب حيث يتحول الى ضرب من ضروب البروبغندا. وما ارتكزت فلسفة تأسيس المعهد الذي انتمي اليه الا على تصويب نوعية الاعلام على اثر افول الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة


في لقاء ماكنزي
وكان ان التقيت مديرة المعهد المؤقتة الجديدة- اليسن ماكنزي التي سألتها بالنيابة عن النهار عن توجهاتها الجديدة وبخاصة تجاه الاعلام في لبنان. فكان ان ابلغتني بأنّ المعهد سيقوم بتأسيس لجنة وطنية له في لبنان تكون له الذراع التنفيذي والعين الساهرة على اوضاع الاعلام في لبنان والشرق الاوسط.

ثمّ ابلغتني بأنّ المعهد هو في صدد انفاذ مشروع تدريب للصحافيين في لبنان وذلك بالتعاون مع جمعية مهارات العاملة في كنف جريدة النهار. اللقاء مع ماكنزي كان وديا ومحاضرات المعهد في تلك الدورة كانت جيدة، والجلسات المغلقة كانت مثمرة بالفعل


لقد اضاء المؤتمر على موضوع تراجع الحريات الاعلامية في اوروبا الا انه اغفل التطرق الى احوال هذه الحريات في الولايات المتحدة الامريكية ايضا وبخاصة بعد اقالة كبيرة صحافيي البيت الابيض-هيلين توماس بعد توجيهها انتقادات نافرة الى اسرائيلية، والاعلامية اوكتافيا نصر على اثر كتابتها بضع كلمات حول الامام فضل الله وادواره في اصدار فتاوى تحرر المرأة في الاسلام، عشية تشييعه


واني اعتقد بأنّ احوال الحريات الاعلامية قد اضحت تتراجع في الغرب عموما، في ظل اعلان الحرب على التطرف والتخوف من اضمحلال الحضارة الغربية في اشكالها العلمانية بسبب استفادة البعض من هوامش الحريات الممنوحة في هذا الاطار.



في ليالي المؤتمر
لم يغفل الرئيس النمساوي هانس فيشير الاجتماع بالمؤتمرين مساء اليوم الاول للمؤتمر. فكان ان دعانا الى حفل عشاء في قصر آل هابسبورغ التاريخي حيث غصت بنا القاعة الكبرى. واعاد الرئيس تأكيده على دعم بلاده لحرية الصحافة كما استعرض بعضا من تاريخ بلده الحديث والاسس التي تقوم عليها سياسة النمسا الخارجية.

اما الليلة الحدث فكانت ليلة تكريم ابطال الصحافة الستين الذين وفدوا من كل اصقاع الارض. وراح المنضمون الجدد الى لائحة الشرف يتلون قصصهم في سبيل حرية الاعلام. لقد كانت مي شدياق احد اولئك الذين احتفى بهم المعهد لنضالاتهم في تلك الليلة. ووجودها اتى كي يضفي نكهة فريدة على الاحتفال الذي اقيم في بلدية فينّا التاريخية حيث علت اصوات الحرية على وقع ضربات الموت والانتهاكات المتزايدة ضد الرأي الاخر في معظم اقطار هذا الكون المعذب


النهاية
لقد كانت زيارتي الى فينّا حلما سرعان ما انتهى لانّ ليالي الانس فيها لا تدوم طويلا. رحت استعد لمغادرة المدينة صبيحة اليوم الخارج من كنف جمالات تلك الليلة. ودّعت رفاقي وحزمت امتعتي، متوجها الى قدري اللئيم حيث العراك والديوك والحقائق المتصارعة من اجل البلد

بيروت يعجبني صخبك المتناهي لكن ليس الى حد الانتحار، الا فتعلمي من فينّا دروسا
!!!
بيروت لو استطعت ان اقلك على عربات خارج حلبات صراعات الشرق الاوسط!!!

الا انّ في ذلك جبن وتخل، وانت لا ترضين ولا تراب اهلي يقبل
...
لبنان لو استطعت ان انقل شمسك واديمك وتاريخك واعطه الى شعب آخر يعرف قيمة لبانك وبياضك وروابيك!!!

ما بالي اهرب من قدري الذي لا ينفك يلاحقني، وقدري بلد كله شهادة ونزف وصخب وقادة عميان ومجهول!!!
published in annahar of sunday,the 26th of september,2010