الاثنين، 27 سبتمبر 2010

هتلر وفينّا ومعهد الصحافة في ايلول العام 2010




هتلر وفينّا ومعهد الصحافة في ايلول العام 2010
بقلم مازن ح. عبّود

"

الكسندر(قيصر روسيا) ينكح عن كل المشاركين، فريدريك ويلهيم (امبرطور بروسيا) يفكر عن الجميع، اما فريدريك الدانمارك فيتكلم بالنيابة عن الجميع، وماكسيميليانو بافاريا يشرب عن الجميع، فريدريك ورتمبورغ يأكل عن الجميع، اما امبرطور النمسا فيدفع اكلاف كل المشاركين".
من اقوال اهل النمسا في مؤتمر فينّا في العام 1814


ما ذهبت الى فينّا كي اغطي المؤتمر الذي اعاد تنظيم اوروبا بعد تنحي نابوليون في العام ، كما اني لم اوافيها كي ارقص الفالز في قصر آل هاسبورغ اباطرة هنغاريا والنمسا. لقد توجهت الى مدينة موزار وهايدن وشوبرت تلبية لدعوة معهد الصحافة العالمي لحضور اجتماعاته
السنوية التي تتزامن واحتفالات يوبيله الستين




في فينّا
لقد كانت فينّا في بالي ارض "Sound of Music " التي اجتاحها هتلر ببربريته عام 1938. كما علقت في رأسي نغما لهايدن و انشودة " Ave Maria" لشوبرت، التي عشقت ادائها يوم كنت تلميذا ينشد في فرقة الجامعة الامريكية في بيروت. كانت فينّا اناء اصداء نغمات “Requiem” موزار، ذلك العمل الرائع الذي لم يستطع اماديوس انهائه، والذي قال فيه بأنه سيكون لجنازته لا لجنازة من استأجره لتأليفه ونظمه.
الا انّ فينّا كانت ايضا بلد فرويد المخيف بنظرايته وبلد الاباطرة ليوبولد الاول الذي درء العثمانيين عن اوروبا في نهاية القرن السابع عشر وجوزيف الثاني الذي ادخل اصلاحات ريادية امبرطوريته.

لقد احببت ان اكتشف واتلمس كل شيئ في المدينة التي كان اساس ازدهارها مبنيا على فدية قدمت كي يحرر قلب الاسد-ملك بريطانيا بعد ان اسر فيها على اثر عودته من اورشليم مكسورا، ابان الحملة الصليبية.
ما من احد اتقن طرق التجارة في اوروبا كما اتقنها يهود فينّا. ففينّا العظيمة هي ليست الا صنيعة التجارة بعد ان كانت ثكنة عسكرية رومانية مع بعض كروم العنب ابان القرن الاول ميلادي



هتلر في قصر هابسبورغ
وصلتها صباح وقد آثرت ان استحم من وهن السفر ومشكلات فينيقيا وارزها. وكان قصر آل هابسبورغ الذي من حوله توزعت المدينة هدفي. لقد كان ذلك القصر كبيرا اذ فاق عدد غرفه الالف ومايتي غرفة وقد بني على مراحل. ورحت اتفقد الجناح الملكي للقصر وخرجت الى الشرفة التي حلّ طيف هتلر- الفوهرر ضيفا عليها في الخامس عشر من آذار من العام

1938.
وطنّت في اذنيّ كلماته الشهيرة للجماهير المتحلقة من حول عامود اركي دوك كارل : " كفوهرر للرايخ وكمستشار لالمانيا ادون في سجل التاريخ في هذه اللحظات انضمام النمسا الى الرايخ ...".

الا انّ صورة الفوهرر اختلطت بصورة الفتى الفقير الذي كان يجرف الثلوج من امام العربات القادمة الى القصر الامبرطوري لزيارة آخر اباطرة المملكة الهنغارية النمساوية المقدسة.

وهتلر لم يواف قصر ال هاسبورغ في ذلك الربيع، حيث جمع اصدقائه القدامى واركانه من حوله في كنف الجناح الامبرطوري وراح يستذكر تاريخه الصعب في فينّا، الا كي يقول للصبي الفقير والمعدم الذي كان بأنه قد اضحى هو نفسه امبرطور اوروبا الجديد
.
وخلد هتلر ليلة واحدة في غرفة الامبرطور على امل ان يعود الى القصر مجددا الا انه انشغل في حروبه وما عاد اليه البتة. ففرحته كانت لليلة واحدة ولارضاء حلم قديم



كاتدرائية وعظيم
واجمل ما هو في محيط القصر كانت كاتدرائية استفانوس التي جعلتني اشعر بقوة حضور الله في حياة اناس تلك المدينة. فالكتدرائية كانت الاكبر والاجمل في اوروبا، فترة انجازها، وقد نفذّت وفق النمط الغوتي.
اتت الكاتدرائية صاعدة في تصميمها نحو الله ،وصورة لسمائه. والنمط الغوتي في العمارة يرتكز في فلسفته على حمل البشرية الى السماء بعد ان احجم الله عن القدوم الى الارض في العام
1000 ميلادي (المجيئ الثاني)، كما كان شعب اوروبا يتوقع.

دخلت الكاتدرائية الرائعة، فجثوت في غمرة الانغام، ورحت اتأمل في جمال التصميم وسحر المكان. ما ادهشني كان الاورغون الذي قيل فيه لمصممه، بأنه سينهار لعدم قدرة قاعدته على تحمل وزنه. فكان ان حمل تمثال المصمم الالة على منكبيه في تحد واضح للنظريات المعاكسة الى يومنا هذا
.
لقد كانت تفوح من كل زاوية من زوايا الكاتدرائية النغمات الموسيقية واصوات مرتلي فرقة فينّا للانشاد التي كان الصبية فيها ينشدون فيها ايضا السوبرانو. صبيان كان يخيّرون ما بين الخصي عند بلوغهم او فقدان العمل والعودة الى الشوارع والجوع والعوز. والخصي كان ضرورة للحفاظ على ميزاتهم الصوتية
.
وانبعث من حوائط المكان اصوات اولئك الصبية. ثمّ ان انغامهم كانت تختلط بتمتمات المؤمنين وومضات الشموع المضائة حول ايقونة للسيدة قيل انها حمت المدينة من غزو العثمانيين في عهد ليوبولد الاول، وبالتالي "اسلمة اوروبا" كما يقولون.

الا اني ابلغت انّ عدد الشموع المضائة من حول تلك الايقونة الرمزية قد تزايدت في السنوات الاخيرة.

كما انّ اكل حلوى الكوراسان التي تمّ صنعها على شكل الهلال العثماني احتفاء بصد الغزوة العثمانية سيتضائل. فاوروبا القديمة تبدوا عاقرا لا تتكاثر اعراقها، وقد اضحى سقوطها وشيكا من الداخل بتراجع القيم التي كانت في اساس حضارتها وتمايزها اصلا

قلّما شعرت بهذا الكم من الوقار والايمان في كاتدرائية غربية كما ادركت في ذلك المكان. وتمتمت في صمتي مع ارواح اجواق المرنمين الراقدين ترنيماتهم الخالدة. ترنيمات كانت من راكويم موزارت او انغام هايدن السماوية.

ثمّ لمحت شوبرت يدير فرقة فينّا للترنيم، وابصرت صبيا ينبري من فرقة الصبيان للانشاد يصدح بترنيمة " Ave Maria". كنت بين الحضور الواقفة فشعرت بانبهارهم، ثمّ اختلطت تلك الرؤية باصداء جوقتنا- فرقة ترنيم الجامعة الامريكية ابان الدراسة. فقابلت كل وجوه رفاقي من تغربوا اليوم
الاسامبلي هول، كاتدرائية ستيفين، وليمة الحمل...، امكنة اختلطت في مخيلتي وامتزجت بالازمنة. فكل شيئ يتعرى في حضرة الخالق الذي يتظهر ايضا نغما ونسيما عليلا!!!
ثمّ كان ان توجهت الى الكنيسة السفلية للكاتدرائية التي شهدت لمراسم جنازة موزار، ومعاصريه.

جنازة قيل انّ الامبرطور جوزيف الثاني حضرها شخصيا فقال بالموسيقي الراحل: "لكثير الكثير من النغمات يا عزيزي موزار". والجنازة تلك جرت مع حلول الليل وفق التدبير الجديد لمراسم الدفن.
اما جسد ذلك الموسيقي فقد قيل انه لفّ بكتان ووضع في حفرة كلس في المقبرة العمومية خارج اسوار المدينة، كجزء من الاجراءآت الاحترازية التي امر بها الامبرطور بغية درء انتشار الاوبئة في المدينة التي عانت الكثير جراء ذلك تلك الايام.

فكان ان اضحى موزار نغما في اثير فينّا، ومن دون اثر لبقاياه المادية. لما لا فالمادة تنمحي اذا ما هامت الروح وامتزجت بروح الكون، فأضحت انغاما وسمفونيات خالدة


مؤتمر معهد الصحافة
الكاتدردائية والوسط القديم جعلت فينّا تضحي في كياني، بعد ان توقفت اجول فيها بسبب مشاركتي في اعمال مؤتمر معهد الصحافة في عيده الستين.

والمؤتمر اتى كي يقول لهذا العام، انّ حرية الاعلام قد بدأت تتأرجح حتى في اوروبا التي طالما كانت جنة حريات الرأي.

والاعلام عادة يهتزّ في فترات الحروب حيث يتحول الى ضرب من ضروب البروبغندا. وما ارتكزت فلسفة تأسيس المعهد الذي انتمي اليه الا على تصويب نوعية الاعلام على اثر افول الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة


في لقاء ماكنزي
وكان ان التقيت مديرة المعهد المؤقتة الجديدة- اليسن ماكنزي التي سألتها بالنيابة عن النهار عن توجهاتها الجديدة وبخاصة تجاه الاعلام في لبنان. فكان ان ابلغتني بأنّ المعهد سيقوم بتأسيس لجنة وطنية له في لبنان تكون له الذراع التنفيذي والعين الساهرة على اوضاع الاعلام في لبنان والشرق الاوسط.

ثمّ ابلغتني بأنّ المعهد هو في صدد انفاذ مشروع تدريب للصحافيين في لبنان وذلك بالتعاون مع جمعية مهارات العاملة في كنف جريدة النهار. اللقاء مع ماكنزي كان وديا ومحاضرات المعهد في تلك الدورة كانت جيدة، والجلسات المغلقة كانت مثمرة بالفعل


لقد اضاء المؤتمر على موضوع تراجع الحريات الاعلامية في اوروبا الا انه اغفل التطرق الى احوال هذه الحريات في الولايات المتحدة الامريكية ايضا وبخاصة بعد اقالة كبيرة صحافيي البيت الابيض-هيلين توماس بعد توجيهها انتقادات نافرة الى اسرائيلية، والاعلامية اوكتافيا نصر على اثر كتابتها بضع كلمات حول الامام فضل الله وادواره في اصدار فتاوى تحرر المرأة في الاسلام، عشية تشييعه


واني اعتقد بأنّ احوال الحريات الاعلامية قد اضحت تتراجع في الغرب عموما، في ظل اعلان الحرب على التطرف والتخوف من اضمحلال الحضارة الغربية في اشكالها العلمانية بسبب استفادة البعض من هوامش الحريات الممنوحة في هذا الاطار.



في ليالي المؤتمر
لم يغفل الرئيس النمساوي هانس فيشير الاجتماع بالمؤتمرين مساء اليوم الاول للمؤتمر. فكان ان دعانا الى حفل عشاء في قصر آل هابسبورغ التاريخي حيث غصت بنا القاعة الكبرى. واعاد الرئيس تأكيده على دعم بلاده لحرية الصحافة كما استعرض بعضا من تاريخ بلده الحديث والاسس التي تقوم عليها سياسة النمسا الخارجية.

اما الليلة الحدث فكانت ليلة تكريم ابطال الصحافة الستين الذين وفدوا من كل اصقاع الارض. وراح المنضمون الجدد الى لائحة الشرف يتلون قصصهم في سبيل حرية الاعلام. لقد كانت مي شدياق احد اولئك الذين احتفى بهم المعهد لنضالاتهم في تلك الليلة. ووجودها اتى كي يضفي نكهة فريدة على الاحتفال الذي اقيم في بلدية فينّا التاريخية حيث علت اصوات الحرية على وقع ضربات الموت والانتهاكات المتزايدة ضد الرأي الاخر في معظم اقطار هذا الكون المعذب


النهاية
لقد كانت زيارتي الى فينّا حلما سرعان ما انتهى لانّ ليالي الانس فيها لا تدوم طويلا. رحت استعد لمغادرة المدينة صبيحة اليوم الخارج من كنف جمالات تلك الليلة. ودّعت رفاقي وحزمت امتعتي، متوجها الى قدري اللئيم حيث العراك والديوك والحقائق المتصارعة من اجل البلد

بيروت يعجبني صخبك المتناهي لكن ليس الى حد الانتحار، الا فتعلمي من فينّا دروسا
!!!
بيروت لو استطعت ان اقلك على عربات خارج حلبات صراعات الشرق الاوسط!!!

الا انّ في ذلك جبن وتخل، وانت لا ترضين ولا تراب اهلي يقبل
...
لبنان لو استطعت ان انقل شمسك واديمك وتاريخك واعطه الى شعب آخر يعرف قيمة لبانك وبياضك وروابيك!!!

ما بالي اهرب من قدري الذي لا ينفك يلاحقني، وقدري بلد كله شهادة ونزف وصخب وقادة عميان ومجهول!!!
published in annahar of sunday,the 26th of september,2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق