الأحد، 25 أبريل 2010

بروكسل وغودفروي وبوكوفا والقارة السوداء






الأحد 25 نيسان 2010 - السنة 77 - العدد 24026
بروكسل وغودفروي وبوكوفا والقارة السوداء


أحملني يا بساط الريح الى مملكة تزدان اسواقها بشلالات الشوكولا. احملني الى ساحات "الفلامان"(1) و"الولان"(2)، حيث النساء من دمى. احملني الى حيث النساء تصفف شعرها جدائل جدائل من ألوان النور، وتتوشح بثياب مطعمة بالدانتيل (3).
بروكسل كانت كل ذلك. كانت عاصمة اوروبا التي اوجدتها بروسيا لمراقبة تحركات الملاحة النهرية لجيوش ملك فرنسا، والمدينة التي اهداها حاكمها - الكونت دو لوفان الى رئيس الملائكة ميخائيل تقديرا لتدخله في شفاء ولده. لذا، فاني لم اوافها تلبية لدعوة منتدى كرانس مونتانا الاقتصادي للمشاركة في ندوة متخصصة تعالج شؤون القارة السوداء، بعدسة سيدات افريقيا الاول وبمشاركة ايرينا بوكوفا على رأس وفد رفيع من الاونيسكو، فقط، او كي أتوج قائداً للغد كما قالوا من قبل المنتدى. بل اني وافيتها ايضاً كي ابحث عن طيف الملك "غودفروي دو بويون"- اول حاكم افرنجي على اورشليم، وكي ابحث عن إكسير استمرارية الاتحاد الاوروبي رغم كل ضعفاته وسر اتخاذه المدينة عاصمة له. احببت ان اسأل "غودفروي" عن الاهداف الحقيقية لحملته، وان اخبره عن نتائج تلك الحملات علينا نحن، مسيحيي الشرق. وانا قد تعودت الكلام مع الموتى، وبخاصة اذا ما مضى على وفاتهم اكثر من تسع ماية سنة (مات في العام 1100 م.) بعيدا من بلدانهم.


في لقاء" Godefroy de Bouillon"
في بروكسل
وصلت المدينة مدينة زعيم الملائكة ظهر يوم ربيعي ضحكت فيه مدينة ليوبولد الاول(4) من كل قلبها. وكان ان اصطحبني رئيس الجالية اللبنانية في المملكة مارون كرم في رحلة استكشاف ليلية للمدينة التي تشكل قلب اوروبا الحالية، وذلك بعدما قضيت جزءاً غير قليل من ذلك النهار في جنائنها اتأمل طرائق تصميم الحدائق فيها. لقد كانت لمارون مع المدينة وفنادقها قصص في النضال من اجل بلده. لم يخفِ رفيقي شغفه بالمدينة وقصصها، الا انّ لبنان ما غاب عن احاديثه البروكسلية. وكان ان قدمني الى ملهم بلجيكا، وحاكم اورشليم الاول الذي قرأت أنه باع قصره كي يشارك في تمويل مهمة اعتقد بأنها ستكون نبيلة. حاكم كتب عنه، أنه رفض وضع تاج من ورق الذهب على رأسه وقبول لقب ملك اورشليم، لاعتقاده ان الله وحده يملك والى الابد على الاراضي المقدسة، ذاك الذي تزينت هامته باكليل من الشوك. كما كتب عنه البيرت اكس في العام 1100 م أنه امتنع عن الاشتراك في المجازر التي ارتكبها الافرنج، لا بل بكى كثيرا ومشى حافي القدمين في شوارع المدينة المقدسة وصولا الى جبل الزيتون تكفيرا عن جرائم وجهالات جيشه. فكان ذلك الحاكم كما يقال موضوع اعجاب مشايخ العرب بتواضعه. ونقل عنه قوله انّ الانسان تراب هو واليه سيعود، فلمَ التفاخر؟
اختلف الاوروبيون على هوية الحاكم ومكان ولادته الا انّ البلجيكيين الذين راحوا يبحثون عن ملهم مع نشوء دولتهم في العام 1830، ارادوا ان يكون حفيد شارلمان من بايسي البلجيكية وليس من بولون الفرنسية.

وكان ان سألته عمّا اذا كانت الحملة الصليبية قد ادت اهدافها المنشودة، وعمّا اذا كان راضيا عن فتح القدس. فتطلع الي مبتسما وقائلا ان الاهداف، مهما تعالت، تفقد نكهتها واسبابها اذا ما انحرفت الاساليب. لقد اكتشفت في اورشليم بأنّ مملكة المخلص ما عادت من هذا العالم، وأنّ العنف لا يولّد الا العنف. اغفروا لنا يا ابناء المشرق ما صنعنا بكم في محيطكم. لكن الا فاعلموا أننا لم نكن جميعا مستعمرين، لا بل كان بعضنا صادقا، الا انه لم يدرك يومذاك أنّه لا يستطيع ردم الهوة التي تفرق مدينة الله عن مدينة البشر التي اشار اليها اوغستين في فلسفته. انتبهوا لذلك والا اضحيتم شياطين بغض النظر عن اهدافكم، فالغاية لا تبرر دائماً الوسيلة كما تقولون. ثمّ كان ان اراني رفيقي الحي الاوروبي، في المدينة حيث يقبع ساسة الاتحاد الاوروبي قبل ان اعود الى غرفتي بانتظار فجر يوم جديد.

ايرينا بوكوفا
اشرقت نجمة مؤتمر القارة السوداء التي لـ"كرانس مونتانا" من بلغاريا، فحلّت ايرينا بوكوفا مديرة الاونيسكو ضيفة وراعية وخطيبة مفوّهة في تلك القاعة وسط موجة عارمة من التصفيق. وصلت سيدة الاونيسكو بتواضع وحياء، ورافقها الى المؤتمر بعض سفيرات الدول الاوروبية والافريقية الى منظمتها كما بعض كبار مساعديها ومساعداتها.
احسست ببوكوفا امرأة حقيقية وأميرة ساحرة من زمن الاميرات. بلياقة وبابتسامة حيّت الجميع، وكانت عيناها خير مخبر عما يختلج في تلك النفس الشفافة والحساسة المرهفة التي سكنت ذلك الجسد النحيل والجميل الذي راح يتراجع بعض الشيء بفعل السنين. تكلمت عن اعادة ربط الثقافة بالتعليم، كما عن ضرورات تعزيز ادوار المرأة في الدول الاقل نمواً وبخاصة في دول القارة السوداء التي يهيمن عليها شبح الحرب والمجاعة وفاقات الجهل على الرغم من غناها الطبيعي. وما اغفلت بوكوفا في خطابها الربط ما بين جودة التربية والازدهار فالاستقرار. ودعت سيدات افريقيا الى ممارسة ادوارهنّ في بلدانهنّ لجهة تعزيز ادوار المرأة والرجل على السواء لنشر الوعي والعمل على ارساء ثقافة السلام.
وكان ان التقيتها على هامش المؤتمر فتكلمت معها لدقائق عن فينيقيا ومدائنها، كما عن التربية البيئية التي ما اغفلتها في كلمتها، وحرية الصحافة ولبنان. ارسلت رسائل محبة الى "النهار" والاعلام والمرأة في لبنان. لقائي ببوكوفا جعلني احدد مكامن قوة تلك المرأة التي استطاعت بأنثويتها وعفويتها وثقافتها كسب معركة الاونيسكو. فشعرت بأن العالم اليوم والاونيسكو هما بأشد الحاجة الى امرأة على شاكلة بوكوفا. امرأة تؤمن بقوة المحبة والتواضع والثقافة لتغيير بعض من معالم هذا العالم او اعادة تصويب المثل فيه لجهة تسليط قوة النفس على جاذبية الشهوة والجسد. فرحت كثيرا ببوكوفا اذ وجدت فيها بعضا من مريم العذراء، ام السيد وعروس العرائس.

سيدات أفريقيا وقادة الغد
شعرت بأطياف رواية جورج اورويل "صرخة عبر البلد المحبوب" تحل في ما ورائيات كلمات السيدات وقادة الغد الافارقة. حضر ما قرأته عن البؤس والفحش، والفقر والغنى، والبربرية والانسانية، في رواية اورويل في بالي وانا استمع الى تلك المداخلات. وشعرت بأنّ كل مدينة في افريقيا تشبه "جوهنسبورغ" بقصص شبابها. احسست بعطش السلطة والعنف يلوح في تطلعات معظم مشروعات قادة الغد الافارقة. كما احسست بالتوق الى التحرر والخوف يرشح من كلمات السيدات الاوائل والرؤساء السابقين الذين ما اخفى بعضهم حيثيات نشأتهم وعذاباتهم.
اتوا جميعا في ذلك اليوم الى عاصمة اوروبا والى مدينة الملك ليوبولد الثاني الذي كان من رموز الاستعمار للقارة السوداء والتي شكلت جمهورية الكونغو احدها. اتوا دارة من اعتبروه المستعمر والذي سلبهم كنوزا وسلّفهم حضارة مختلفة ما استطاعوا فهمها كليا لغاية الآن. راحوا يتكلمون باللغة العالمية. والسباق على خيرات القارة السوداء واستعمار دولها قد اسفر عن حروب في افريقيا وأوروبا والعالم، فكانت الحرب العالمية الاولى. لم يغب عن بالي في تلك الاثناء كيف انّ الكثير من معالم بروكسل شيّد من "كاوتشوك" ومن عاج "الكونغو" من قبل ليوبولد الثاني وغيرها من الدول الافريقية. وما زال الألماس واليورانيوم والنفط هناك يتولد عن مجاعات وانقلابات وحروب من دون ان يؤدي الى التنمية والاستقرار. آه منك ايها العالم، وآه منك يا اوروبا والف آه عليك! الا انك اليوم قد اضحيت معذورة بعض الشيء اذ انك ادركت ان البحث عن القيم المكونة للحضارة والمحافظة عليها هو طريقك الى الازدهار! لكن هل ستدرك ابنتك اميركا ما ادركته انتِ شخصياً فتعملين معها يدا بيد على تغليب القيم
على المركنتلية اي الربحية المباشرة؟


لقب وتكريم وعودة
لم آت الى بروكسل لوحدي بل اتيت مع ثلاثة من افضل شباب بلدي، كان دعاهم المؤتمر كي يكونوا من مؤسسي منتدى قادة الشباب بعدما اطلق عليهم ألقاب "قادة للغد" والذي ضمّ ثلاثين شخصية شبابية من العالم العربي وافريقيا. وكان قوم بلدي افضلهم. فكان ان اعجبت بطيبة رامي المجذوب ومثاليته وشخصية جيلبير دوميط المتميزة وبمهنية خالد بحصلي. الا انّي شعرت بأنّ لا معنى حقيقياً للاعلان والاحتفال، كما لصفات القيادة في بلد كلبنان. وخصال القيادة قد تضحي عبئا على النظام الزبائني عندنا، فيسعى الى لعن من يتمتع بها. رغبت بقول ذلك الى رفاقي في تلك اللحظة الا اني ما تجرأت حرمانهم من تلك اللحظات المضيئة في حياتهم. فسكنت واستكنت سكون القبور مخفيا مرارتي في قلبي.
شكرت بروكسل عاصمة أوروبا على تقديرها لي ولرفقائي، كما على اعطائها لي في التعاطي مع بعض المسائل بعبثية "Manken Pis" ذلك الطفل الاسطورة في تاريخهم والمتموضع تمثاله في احدى ساحاتها، والذي يقال بأنه اطفأ فتيل البارود الذي كاد يدمّر المدينة لمّا تبوّل عليه من على جدارها. ودّعت بروكسل مدينة "الولان" في مقاطعة "الفلامان" والتي شكّلت مساحة صراع وتفاعل ما بين النفوذ الجرماني والفرنسي والهولندي والاسباني. تلك المدينة التي دمّرها لويس الرابع عشر، والتي جاورت "واترلو" التي احرقت نابوليون وامبراطوريته الى الابد والتي بدأ التأثير العربي والاسلامي يبان عليها. تركتها كما وصلتها فجر يوم باتجاه بيروت التي هي مقبرة وحانة وساحة وجوهرة وانا اردد مع الكتاب: "قم يا الله واحكم في الارض لانك ترث جميع الامم".

هوامش
1 - الفلامان هو احد العرقيّن الاساسيّين لبلجيكا والذي يتكلم اللغة الهولندية ويقاسم شعبها ارثه الحضاري.
2 - الذي يتقاسم مع الفلامان الانتماء الى المملكة البلجيكية والعرقين هما في حالة تنافس. الولان هو العرق الفرنكفوني.
3 - الدانتيل قماش يصنع يدويا بالصنارة.
4 - الملك المؤسس للملكية البلجيكية الحديثة.
مازن عبّود


.........................................................................................................................................................................................
جميع الحقوق محفوظة - © جريدة النهار 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق