الثلاثاء، 19 يونيو 2012

طفلة ورحلة انخطاف

قدمت اليّ اليوم كلارا الصغيرة. وكلارا ملاك انزل لوالديها. صوّبت عليّ عيونها البلورية، راخية شعرها المنسوج من العتمات. جلست في حضني. وكلّمتني، قائلة: «أرني عينيك كي انظر اذا ما كنت تكذب او تلعن او تعذّب اهلك يا «عمّو مازن»، فعيناك دفتر تسجل عليه اعمالك وخربشاتك». فكان ان دهشت. دهشت، وابتسمت. فضحكت الملائكة وانهزمت الشياطين وتبعثر الزمان بفعل ضحكتها. الا اني وجدت نفسي طفلا مرميا على احضان جدّته تقرأ في عيونه شيطناته الكثيرة. وتقول له: "اعلم بأنك ما كنت صبيا صالحا هذا الاسبوع، فقد صنعت كذا وكذا. فهذا مكتوب في عينيك. تندم على ذلك. عِدني بأن تكون صبيا عاقلا". وكنت بفعل محبتها، ارضخ واتبدل. ثمّ انقلب الصبي شابا ورجلا، وبانت عليه الجدة بحلتها قبيل رحيلها. اطلت عليه جدته التي كانت شفافة كريح ومحبة كدفء كانون نار ولذيذة كرائحة العنبر!! تلك التي كانت، على بساطتها، تدرك العالم. اطلت عليه بشعرها الأبيض الطويل المرخي على كتفيها العريضين كدرع، وبقامتها الممشوقة كسيف، وعينيها الشاخصتين اللتين تنظران وتلتقطان ما تجدانه في عيونه من أخبار. فقالت: "هات ما عندك من اخبار يا طفلي. لماذا لم تتزوج بعد كي ترزق ابنة كـ"كلارا"؟ ماذا تنتظر؟ اراك تجري، لكن وراء ماذا؟ انتبه يا بنيّ فالعمر يمضي سريعا. اعدمه قبل ان يعدمك. علمت بأنك صرت تتقن فن الرسم بالكلمات. وهذا شيء جيد. اترى ما حصل لتلك التي كنت تقطف لها ازهار الوادي وتختلس النظر اليها فتختفي اذا ما قدمت؟؟ ماذا حصل لتلك "الاميرة" الصغيرة التي غنيت لها في صغرك اجمل ما عرفت من انغام؟؟ تلك التي رسمتها لي ظلالا وألوانا؟؟ تلك التي نقحتها في خيالك ونسجتها لي كاملة الاوصاف ؟؟ اما عادت توافيك ولو بالخيال؟؟". ما اجبت جدتي العائدة من سباتها. بل خفضت رأسي خجلا. وقلت في صمتي: "ماذا عساي اقول لك يا جدتي؟ أأبلغك انّ قلبي قد تعطل لحساب رأسي الذي راح يزين النساء ويحلل؟ أأقول لك إنّ عقلي قد ضرب قلبي، فصرت اسعى ان اتحكّم بمفاتيح المستقبل؟؟ أأقول لك ان الخوف قد غلبني؟". فنادتني مجددا: "ترى ماذا حصل لفارسي الصغير الشجاع؟ ذاك الذي كان يود محاربة العالم بسيف خشبي؟؟ ذاك الذي كان يشرك الانبياء في حروبه مع جان "عمه نقولا" وينتصر؟؟ هل اختفى الى غير رجعة؟؟ هل عطّل العلم عقله، فسكنه الشك؟؟ هل غلب المحسوس، غير المدرك عنده؟؟ هل فقد ولدي الرجاء وبَدّد الإيمان فحمل أوزار ما ليس يعلم؟؟. خذ قرارك. عندك خياران: اما الزواج من امرأة او الزواج من امرأة من نوع آخر؟ لست كاملا ولن تكون شريكتك كاملة هي الاخرى. لا تكثر في التحليل، فالانتظار موت. انّ الانتظار جحيم. سأخبر "عمك نقولا"، ذاك الذي كان يقرأ الطبيعة، بأخبارك لعلّه يوصي بك جانه. ام اقول لك تبّاً للجان فهي من السفليين!! فلنسأل الملائكة كي ترشدك!! لكن انتبه لأنّ الملائكة والجان عناصر تقيم في داخلك يا ولدي. ابكي اذ اراك على جنبات رصيف الانتظار مرميّاً هكذا!! لم تؤجل مشوارك مع قدوم كل قطار، بانتظار آخر؟؟ اخشى ان يدركك الموت وحيدا. تغيّر. انّ الارواح الراقدة لا تأتي الى العالم هكذا. فلا تخسفني يا بنيّ". ثمّ ادركت نفسي مجددا، طفلا يركض اليها عبر ازقة "الحارة الفوقا"، آتيا من جسر الوادي حيث المصبنة، محملا بحقيبته المدرسية يشاكس رفاقه وابن عمه. ابصرت الطفل الذي كان يختبئ في فستانها، اذا ما احسّ بخجل. ورحت احاول ان استرجع قلبه وشجاعته وايمانه. ثمّ طلبتها فما وجدتها. اذ انّ "أم عدنان" قد سبحت مجددا في بحر الصمت الواسع، تاركة حفيدها يواجه واقعه. تركته بعد ان سرح معها للحظات في مطارحها وذكرياته. فتفقد الاشياء كلها. ولاعب ابطال قصصه. عادت هي الى دنياها. ركبت الريح مبحرة للبعيد. وهو عاد الى واقعه. فـ"كلارا" اصرّت عليه ان يشرح لها: "لمَ يسافر والدها؟" فأجاب. وما اقتنعت. لم تقتنع بأنّ والدها يغادر سعيا وراء كسب اوراقه النقدية. فيؤمن لها ولأخواتها اسباب الراحة. فالاوراق النقدية رسوم دمغت برموز عبثية يمكن صنعها في اي مطبعة، ليس الّا. ثمّ حاورتني تلك الطفلة الشاعرية في الفقر والغنى والظلم والمساواة، وقد شغلها موضوع الاولاد الفقراء كثيرا. ما كان سهلا التعاطي مع "كلارا". الا اني بليت بلاء مقبولا. ومضيت... غير اني قد شعرت بأنّ ما حصل في ذلك اليوم ما كان من باب الصدفة. فليس معهودا ان يوافي الراقدون من سباتهم لزيارة ما ويرحلون، هكذا!! فكان ان توجهت الى القبر حيث كانت و"سلوى" و"سارة". زيّنته بوردة حمراء وشمعة مضاءة وغصن زيتون. قلت: "باركك الله يا جدتي حيثما أنت. وأنت في دنياه تستريحين مع القديسين. تنظرين إليهم من فوق وأساريرك منارة لهم. شكرا لك يا جدتي. اعدك ان اتبدل. فتنزل افكاري من عقلي الى قلبي قبل ان تعود اليه وتلفظ قرارات تبدّل مصيري. لن اقوم مقام الله. سأبني على ما توافر لي، وعلى قدر ما اعطيت. واسلم ما يفوق طاقتي الى ضابط الاشياء كلها. ما خلّص الذكاء احدا. وقد بدد الله حكمة الحكماء وفهمهم كما يقول الرسول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق