الجمعة، 18 مايو 2012

في رحلة حج مع الراهب الحبر الى بلاد الاغريق الشمالية

بقلم مازن ح. عبّود كانت اليونان في فوآد الفتى قصصا وقواعد ليتورجية. بشّره بها الخوري ايليا يوم كان اكليريكيا. وكان في كل مرة يأتي فيها من هناك يحمل لاولاد ذك الحي تذكارات ونسخا لايقونات. ولمّا كبر اكثر اضحت اليونان فيه نغما وصورا بثها في كيانه الخوري وديع القادم من هناك حيث خدم شماسا في مطرانية تيسالونيكي. الا انه ولمّا دخل شابا الجامعة الامريكية في بيروت للدراسة، اكتشف انّ تلك البلاد كانت، ومنذ قديم الزمان ايضا بلد الالهة الماكرة والاساطير المشوقة والفلسفة والحضارة والخمر والسقطات. ومع اقترابه من يومه هذا اضحى مدركا انّ ما يجمع بلاد الاغريق مع بلده كان اكثر من البحر والتاريخ. فممارسات الفساد هي هي، هنا وهناك. كما انّ انتشار الفساد في الطبقة السياسية وغياب المحاسبة هو نفسه في كلا البلدين. فالسلطنة العثمانية المغدورة، على ما يبدو، قد اورثت كل رعاياها طرقها وانماطها في ادارة الحكم. لم يكن مشوار صاحبي الى بلاد الاغريق هذه المرة للبحث في امور البحر المتوسط او للاسهام في فهم مشكلات هذا البلد الاقتصادية عن قرب. لا بل كانت زيارة حج في جبل المتصوفين المسيحيين من الهدوئيين الذين امتهنوا طرق الصلاة القلبية ووسائل مخاطبة روح الكون دون كلل او ملل. ذهب ليكتشف تلك القلة، من البشر المتصوفة، اكثر. والتي دافع عنها اسقف تيسالونيك-غرغوريوس بالاماس يوما. علّه ذهب الى هناك ايضا للبحث عن النور غير المخلوق الذي قرأ عنه، كما عن حقائق وقصص قديسين. ففي اقتفاء اثر القديسين وسيرهم فوائد جمة. وكان ان رافق حبر طرابلس افرام هذه السنة في مشواره لزيارة تلك الديار. وقد تألف الوفد بالاضافة اليه، من كل من: الارشمندريت انطونيوس الصوري-رئيس دير بكفتين، والايبوذياكون بارثانيوس ابو حيدر، والمهندس غابي المر. اقلعت الطائرة فجرا من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، متوجهة الى اثينا ثمّ الى تيسالونيكي عاصمة اقليم مقدونيا حيث نشأ الاسكندر الكبير. وفور وصولنا الى المدينة، اردت ان اخرج الى الشوارع كي ارى تأثيرات الازمة الاقتصادية على البشر ولدراسة احوال الناس. لقد تزايد عدد المتسولين في تيسالونيكي كثيرا، وغالبيتهم كانت من فئة كبار السن والنساء. كما غصّت الملاهي والمطاعم بالرواد حتى تمام الساعة الرابعة بعد الظهر من اي يوم عمل في بحر الاسبوع. وانك ستنزهل حتما اذا ما خرجت وعاينت كيف يرتدي رواد تلك الامكنة اجمل الالبسة. وعلمت ممن التقيت انّ الشعب هناك على شاكلتنا قد تعود ان يستدين كي يستهلك. فالازمة الاقتصادية قد زادت الهوة ما بين الطبقات الاجتماعية، الا انها لم تقدر الى حد الآن من تغيير انماط معيشة الكثيرين. وقد لفتني ازدياد عدد بنات الهوى في كل مكان وتزاييد معدلات الفلتان الاخلاقي في الاماكن العامة. كما لاحظت ان بعض الفنادق قد بدأت بزيادة هوامشها الربحية عبر الانفتاح اكثر على فئة جديدة من الزبائن من فئة الشبيبة غير المتزوجين، لضمان ديمومتها. وابلغت ايضا بأنّ هناك ثمة حركة معاكسة ايضا باتجاه الكنائس والاديار. فالازمة الاقتصادية قد ادت الى مفاعيل متضاربة احيانا على الناس. ولمّا كانت الزيارة عشية الانتخابات، ادركت حركة استثنائية لساسة اليونان في عاصمتهم الثانية. الا انّ التضارب في الطروحات اشّر بصراحة الى بروز تعقيدات اضافية في مسار الامور هناك.
في تيسالونيكي كانت لنا عدة لقاءآت بلبنانييّن سطروا في يوميات المدينة نجاحاتهم في مهنهم وحملوا ارز لبنان في وجدانهم. فأحببت في الدكتور انطوان سالم روحه المتمردة على الظلم، وحبه للتغيير. وقد اضطرته الظروف الى مغادرة بطرام طالبا، بعد ان سلبته الحرب منزله في بلدة احلامه. وهو يعمل هناك كطبيب اسنان منذ زمن. ومازال يحلم بالعودة الى بطرام بعد استعادة بيته. اما الدكتور سامر مخايل ابن الكفير، فما زالت عصارة الكفيرة حاضرة في كيانه. تدرك وادي التيم في لكنته وقصصه. وقد احببت فيه روحانيته وصفاءه. هؤلاء كانوا بعضا من قوم بلدي الذين هاجروا، طوعا او قسرا. وقد تسابقوا لخدمة من كان يمثل لهم بعضا من عبق ذاتهم وهويتهم الحائرة. وحبر طرابلس مثّل لهم الكثير مع صحبه. اما الكاهن نكتاريوس الذي نذر نفسه لخدمتنا خلال اقامتنا هناك. فهو عن حق سفير انطاكيا العظمى في ارض الاسكندر. وجهه الباسم كان يشعرك انّ ديارك تلاحقك في كل مكان. وفرحه بخدمة الحبر وصحبه دون مقابل كان ضربا من ضروب التحرر لبلوغ قامة المسيح، على ما يبدو. وكنّا نحظى باستقبال كبير حيث ما حللنا في محيط تيسالونيكي. الا انّ الراهب في الحبر كان يهرب من الاضواء بخفر ويتوارى. حيث انه كان يكتفي غالبية الاحيان بالابتسامة عند كل اطراء. ويتحاشى الكلام غالب الاحيان. فالصمت عنده هو لغة الدهر الآتي التي يجب ان نتعود عليها جميعا نحن معشر من رافقناه. دير البشارة المعروف بدير اورميليا، التابع لدير سيموناس بتراس في الجبل المقدس، والذي يضم الماية والعشرين راهبة هو محطة حج سنوية للحبر الذي كان يتكلم في راهبات الدير. ويلتقي منهنّ المبتدئات، القادمات من الكرسي للانطاكي للتعرف على الحياة الرهبانية، على انفراد لتقوية عزائمهنّ. ومن ثمّ كان ينطلق الى ضريح المغبوط بايسيوس في دير القديس يوحنا اللاهوتي في منطقة السوروتي لزيارة القديس الراقد هناك الذي زوّده بالنصح في بداية حياته الرهبانية. وقد كان يتمتم له بضع كلمات مقبلا التراب. وزيارة دير ميلاد العذراء في منطقة بانوراما هي بند دسم من بنود برنامجه وذلك لمعاودة الاخت سلوّانية ابنة اخ سلفه الياس على كرسي طرابلس. كما كان لاديار ارسانيوس الكبادوكي ويوحنا المعمدان نصيب من مشوار حجه. تركزت احاديثه مع اهل الاديار حول الله والقديسين وادوار الشباب والعولمة والعصر والازمة الاقتصادية ومفاعيلها على الكنيسة. وقد شعرت انّ الحبر كان يفضل الاستماع على الكلام، اذا ما استطاع الى ذلك سبيلا. فتواضعه وفقره وتقواه هي عناصر جعلت منه درسا. وما عاد من لزوم للكلام كثيرا. ففي يقينه انّ الانسان يفعل اكثر عندما يتحول هو شخصيا الى ما يمكن ان ينادي به. وفي ليلة المضي الى الجبل، عانقت بحر المدينة مقبلا اياها والدنيا. قبل ان نمضي جميعا، فجر اليوم التالي، بسيارة الاب نكتاريوس عدرا، الى مدينة بوابة السماء. حيث سلكنا طريق الجبل المقدس بحرا.  
في دير القديس بولس بان علينا الجبل المقدس قبل ان نبلغه. وقد بدا من البحر قلاعا معلقة ما بين السماء والارض وما بين اليابسة والجلد. فكان ان بلغنا مرفأ دير القديس بولص في 27 نيسان. وقد كان اهل الدير علّة زيارة الحبر للجبل. فالدير هو دير التوبة في درب حبر طرابلس الرهبانية كما ابلغنا الاخ بارسانيوس. وذلك لانّ الحبر وضع انسانه الاول وتوبته فيه قبيل نيله الاسكيم الملائكي (الرسامة الرهبانية). امضينا في ذلك الدير يومين ونيف. وقد تمت احاطتنا بكل اسباب الراحة. احيط الدير بكنائس على التلال من حوله. احدثها شيّد تخليدا لذكرى بطريرك الاسكندرية الراحل بطرس الذي سقطت طائرته قبالة ذلك الموقع في طريقه لزيارة الجبل. الاهم في ذلك الدير الجميل، الذي بناه القديس بولس القسطنطيني على مرمى الموج، هو شيخه الروحي بارسانيوس الذي اتخذه الحبر ابا له. وقد اطلق على شماسه المبتدئ (الابوذياكون) اسمه. بحثت عن الارشمندريت بارسانيوس- رئيس الدير طويلا. ولمّا التقيته لم اكتشف انه هو. مظهره كان الاكثر تواضعا ما بين الرهبان. ثمّ انه كان يتوارى. قيل لي انه لم يغادر ديره الا نادرا جدا. وذلك لانه نذر ان يعيش في البراري. قابلته على انفراد، بطلب من الحبر. فكان ان اكتشفت فيه انسانا متواضعا وبسيطا ومحبا وفقيرا. لم يكن متعلما، الا انه كان حكيما. لم يكن مظهره جميلا ولا هندامه انيقا. بل انّ رثاثة ثيابه ومظهره عكسا اتقاد نفسه، كاتقاد نار في جمرة. افضيت له ما عندي. فباركني وصلى لاجلي. كما زودني بتوصيات. اما الاخ بارسانيوس فقد اصرّ ان يحظى بصورة مع جده الروحي الارشمندريت بارسانيوس. فكان له ما اراد. لم يكن السبت يوم استراحة في الدير بل كان مناسبة لمعاودة اشهر رئيس ثاني اكبر دير في الجبل الارشمندريت افرام-رئيس دير الفاتوبادي. انطلقت السيارة من الدير القلعة بقيادة احد الرهبان. وراحت تتموج على الطرق التي اقتحمت التلال ما بين غابات الكاستناء البري متجهة الى دير الفاتوبيدي العظيم، للقاء شيخه. وفي الطريق، راح الحبر افرام وشماسه يتلوان علينا فيضا من غيض قصص الجبل. كقصة بطريرك القسطنطينية، الذي وافى الجبل يوما طالبا الترهب كمبتدئ، دون الاعلان عن هويته. فكان ان تمّ قبوله. وبدأ مشواره الى حين ابلغت العذراء مريم رهبانها عنه. فعادوا فاستقبلوه بما يليق ببطريرك اثرعودته من حقول الدير حيث كان يعمل. افرام الفاتوبيدي لمّا وصلنا الدير كان رئيسه بالانتظار. انحنى شيخ الدير امام حبر طرابلس، مقبلا يده. وسلّمه عكاز الرعاية. وانطلقنا جميعا لزيارة الكنيسة وتقبيل ذخائر القديسين. انحنى الحبر امام هامة يوحنا فم الذهب، مقبلا اياها. وتمتم في اذن القديس غير المتحللة همسات. همس حيث بولس-فيلسوف الكنيسة همس له قبلا اقولا غيرت الناس وعبرت الامكنة والازمنة. ثمّ اصطحبنا الشيخ الى شرفة جناحه الخاص حيث طاب الحديث في فنون رعاية الاديار والكنيسة على مسمع رئيس دير بكفتين الناشئ. عرفت الفاتوبيدي من قبل. الا اني لم احظى بلقاء شيخه الذي جعل من ديره خلية عجّت بماية وعشرين راهبا قدموا من كل اصقاع العالم. ما جعل من الشيخ افرام معروفا هو سجنه جراء جرم لم يقترفه. لقد كانت ارادة الرب كما يقول "اشعياء رئيس دير السيموناس بيتراس": "ان يعتقل افرام الفاتوبيدي كي يجعل من السجن ديرا وكي يتوب كثيرون". وهو قد اعتقل على اثر صفقة تبديل اراضي ما بين الدولة والدير بغية اقامة مشاريع رعاية اجتماعية. ولمّا بدأت الازمة الاقتصادية تمّ التفتيش عن ضحايا. فكان ان زج بالراهب في السجن عن الشعب. ما كان افرام الا وجها من نور. وكلماته ما كانت الا عسلا بريا. ادركته خلال اللقاء مطمئنا، ووديعا، ومسالما، ومرتاحا. كما كان يفوح حبا وسكينة وانوارا وانغاما سماوية.
في لقاء "افرام الفاتوبيدي" وزيارة " البروتاتون" تحدثت الى الارشمندريت افرام بمباركة الحبر افرام. وفي الحديث، عند لقاء الافرامين الشيخين في افياء حديقة مريم، لذة. فبحضرتهما تتعطل الكلمات وتنسكب النعمة. تشعر بدفء الملائكة. وتحدث هو الينا مزودا كلا منا ما يلزمه من زاد. ثمّ ودعنا وجه الشيخ افرام المشرق، شاكرين له ولديره كل البركات التي نلناها من زنار السيدة العذراء وهامة يوحنا الذهبي الفم. وتوجهنا الى كارياس العاصمة لزيارة رئاسة جبل مريم الذي يتمتع باستقلال ذاتي ويسكنه اقل من الفي راهب. استقبل الشيخ برنابا، الذي تنتدبته اديار الجبل العشرون لتدبير ادارة حديقة العذراء لوجيستيا لفترة سنة، حبر طرابلس والوفد المرافق بحفاوة. والزيارة كان لا بد منها اذ انه، بحسب التقليد الآثوسي، يتوجب على أي شخصية إكليريكية كانت أم علمانية بارزة أن تزور رئاسة الجبل، فتستلم منها رسالة ترحيبية باسم كل الأديار و المناسك الآثوسية. بعد زيارة الشيخ برنابا. كانت لنا محطة في كنيسة البروتاتون حيث أيقونة "بواجب الإستئهال". دخل الحبر بوقار الى احد اهم معالم بيزنطيا. واحنى رأسه في حضرة القديسين. ثمّ جال في عينيه متأملا في جدرانيات الكنيسة القديمة. ثمّ انتصبنا جميعا امام الايقونة، صاحبة المقام. ورحنا ننشد لها ترنيمتها "بواجب الاستئهال". فانحدرت افياء الرسومات الينا كي ترفعنا الى فوق. كما رنمنا ظهيرة ذلك اليوم لاورشليم وللقيامة مضيئين الشموع في تلك الزاوية المقدسة، على الف نية ونية. فتذكرت الامبرطور البيزنطي ومغنيه يوحنا كوكوزاليس الذي قدم الى آثوس متخفيا الى ان تمّ اكتشافه ينشد في الحقول وهو يرعى ماشية الدير. فتحول من منشد الامبرطور الى منشد الكنيسة. ثمّ بان عليّ يوحنا الدمشقي والحانه الدهرية. فأختلطت افياء انطاكيا بأنغام الجبل المقدس في حضرة ام الاله. ارجعتنا السيارة الى دير بولس الاثوسي سالكة دروب الجبل المقدس المطلة على بحر ايجيه ومقتحمة سحر غابات تلك الخطيئة. ثمّ كان غروب ووافى سحر الاحد. فترأس الحبر القداس الالهي في الدير المضيف قبل ان نتناول طعام الغداء ونتوجه الى دير السيمونوبترا. دير" السيمونوبتر" وصلنا دير سمعان الاثوسي بعد ظهر احد حاملات الطيب. وقد شيّده القديس على ظهر صخرة كبيرة. وقد اريد لكنيسته ان تكون على اسم ميلاد المسيح. قال فيه الاخ برسانيوس، في رسالة ارسل بها الى لبنان: "انه بيت لحم"، مشبها الوفد المرافق لحبر طرابلس بالمجوس. تزامنت زيارتنا للدير مع قدوم المطران كاليستوس وير الذي اتى اليه برفقة كبار اساقفة كانتيربيري ووفد من البطريركية المسكونية. الارشمندريت اشعيا رئيس الدير رجل محب وودود ومضياف ومنفتح للغاية. وقد اتقن مع رهبانه فنون الضيافة وطرقها. ولاعجب ان يتحول دير الصخرة الى مصنع لكتابة الصلوات ونظمها وتلحينها!! غصّت اروقة الدير بقصص القديسين وتميّز اهله بمحبة انطاكيا واهلها. فاستضافوا رهبانها وحجيجها في افئدتهم دون مقابل. الهموا ملحنيها. فكان شدو حمطورة الرائع في لبنان. سيمونو بترا هو دير الراهب المعاصر غريغوريوس الذي لحّن لمريم شعر القديس نكتاريوس العظيم "عذراء يا ام الاله"، والراهب اثناسيوس ناظم تسابيح الكنيسة. فرهبان المقام ينقلون الى اهل العالم، ممن كانوا ينظرون الى فوق، بعضا مما كانت الملائكة تنشده للجالس على العرش وامه. كيف لا وهم قد استقروا على جناحيّ نسر يوحنا اللاهوتي البشير المسلط على كل شيئ!!
التقينا في «سيمونو بترا» أناسا كزبد البحر الضارب على اطراف الجماد. قابلنا الشمّاس سيرافيم خوري من بطرام الذي افرحنا باتقاده وتواضعه وثقافته. لم يتقاعس سيرافيم في خدمة الحبر وصحبه، كما لم يتلكأ أيّ من رهبان ذلك الدير في تأمين اسباب راحتنا. ووافى الغروب، وعَلت الترانيم لربّ الكل، ووافى المساء. فكان ان التقيت الاب مكاريوس الفرنسي الجنسية في حديقة المدافن. فكلمني في الحضارة، وأزمات العالم النابعة من الازمة الاخلاقية التي نشأت ابتداء من القرن التاسع عشر، والتي تتزايد تباعا حتى نهاية الروح التي فينا. اختلط الزمان عليّ في ذلك الدير، فتناثرت الساعات كلحظات. وسرعان ما انقضت مسافة اليومين حتى مضيت لملاقاة الحبر وسائر الوفد في دير «الكسينوفوندوس»، المحطة الاخيرة في رحلتنا السداسية الايام الى الجبل المقدس. وهم كانوا قد مضوا للحج في قلاية القيامة التي تحتلّ مكانة مميزة لدى كل انطاكي، بوَصفها مكان إقامة الدائم الذكر الاب اسحق الاثوسي من نابيّه من جبل لبنان. دير ‎»الكسينوفوندوس» كان الارشمندريت الكسيوس رئيس الدير جوهرة ذلك المكان الذي يعد من اقدم مواقع الجبل، على رغم جودة الكنيسة الرئيسية التي كانت الاكبر ما بين كنائس الاديار في الجبل. وقد وافى شيخ الدير من ميتيروا هرباً من الناس في منتصف القرن كما ابلغ حبر طرابلس. وجاد في الكلام عن قصص القديسين والجهادات، والقصص والتوصيات كانت تستهدف بشكل اكبر رئيس دير بكفتين لزوم تزويده بما يلزم لاستكمال مشواره الرهباني وبناء مجتمع رهباني مثالي. الدير اتخذ من القديس جاورجيوس شفيعا له، كما القديس ديمتريوس. وجاروجيوس قد تجلّى لأهل الدير كفائض للطيب ايضا. والدير الذي حظي بزيارة من البطريرك المسكوني في التسعينيات، كان يستعد للاحتفال بعيد شفيعه خلال تواجدنا هناك. أحببت في ذلك الدير ضخامة كنيسته الرئيسية وجمالها. لفتتني صورة علّقت على حوائط احد قاعات الاستقبال، وقد كانت لبطريرك انطاكيا اغناطيوس وللبطريرك المسكوني برثلماوس في قداس احتفالي. فقلّما تدرك مثل تلك الصور في بلاد الاغريق. ووافى الفجر، فشارك الحبر في الصلوات والقداس، ونحن كنا معه. تناولنا الطعام مع محفل الرهبان في صالة المائدة التي تتصل بالكنيسة ماديا ومعنويا. ومضينا عائدين الى تيسالونيكي. ودّعنا الجبل، ونحن نستعد للانخراط في العالم من جديد. الّا انّ كلاً أتى محمّلا بزاد. عدنا على امل ان يكون قد تغيّر في كلّ منا شيء ما. اما الحبر وشماسه فقد اكملا مشوارهما الى بلاد الغال، حيث تنتظرهما مسالك ودروب اخرى تتفرّع من حيث كانا. وكلّ اكمل طريقه وفق برنامجه المعد من قبله سلفا. اما انا فرحت أوضب اغراضي في طريق كي اعود الى لبنان. ورحت افتكر في حملي الثقيل من الافكار السوداء احيانا التي قد تتحوّل أقوالا. ومن ثمّ تتطور الى افعال محبطة، فممارسات قد تصبح عادات غير مضيئة. وقد تصنع لي مستقبلي. فأكون بذلك، قد رسمت قدري بيديّ. وهذا ما لم أرده. عدت من فوق الى تحت وفي بالي ان ارتفع مجدّدا، فأرفع من معي. وهذا ليس بقدرتي. عدت وفي يدي مسبحة صلاة وتمتمات ابتهال الى من يقدر أن يغيّر من لا يتغير.  جريدة الجمهورية العدد 361 | 18 أيار 2012 لبنان
الصفحة 26 | الصفحة 27

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق