الأربعاء، 6 يناير 2010

عيد الغطاس اليوم ذكرى لعماد السيد المسيح




الأربعاء 06 كانون الثاني 2010 - السنة 77 - العدد 23922
عيد الغطاس اليوم ذكرى لعماد السيد المسيح

قال "طنسى" الجد، لحفيده: "كانت لعيد الغطاس في ايامنا الاولوية على كل الاعياد الشتوية. فالغطاس يطوي الميلاد عندنا في ثناياه، ويختزل كما غير قليل من تراثنا غير المنقول. هذا التراث المحلي المغمّس برائحة جبالنا وثلوجها وشجرها ومياهها، كما بطرائق اطباقنا وقصصنا ومعتقداتنا الشعبية... انني اخشى، يا ولدي، على هذا الارث من الضياع في ظل التراجع المستمر في اهمية هذا العيد الديني والشعبي، فاستمع الي جيداً ولا تنس ما سأقوله لك".



في الغطاس وطقوسه

"نال الغطاس اهمية كبرى في تراثنا الشعبي، نظراً الى ارتباطه بالمياه التي هي العنصر الاهم في حياة الناس في منطقتنا المتوسطية. فالمياه هي الحياة، يا بني، ولا بشرية ولا حضارة من دونها، وكما تعلم فهي شحيحة في عالمنا. ولطالما كانت المياه رمزاً للتبريك. وعماد المسيح على يد يوحنا أتى كي يظهر إرثاً توارثناه، حتى قبل ميلاد المخلص. غير ان حدث عماد المخلص اضاف معاني جديدة. فكان ما حصل ايذاناً ببداية مهمة المسيح الخلاصية على الارض التي تكرس بحلول روح الله عليه في الاردن. لقد كان عماده رمزاً لانسحاقه امام البشرية الخاطئة ولقبوله الموت كي يعود فيقوم.
هذا في الدين، اما في عادات الغطاس، فلقد كانت جدتك "مريم" تنهمك – ومنذ ايام الميلاد – في البحث عن زهور "بخور مريم" (1) التي تنبت في زوايا الحرش الملاصق للـ "عـــودة" (2). فكانت تلتقط ابصالها التي تقطعها ارباً ثم تجمعها في عقد خيطه من خام او كتان. ويوضح العقد جانباً في انتظار قدوم ليلة "الدايم دايم" التي تقع في عشية عيد كل غطاس. ثم تحضر العجينة، وعجينة جدتك لتلك الليلة كانت تصنع من دون خمير، اذ ان المعمود من يوحنا في تلك الليلة (يسوع) سيشكل الخمير الذي يخمّر العجين في معدننا طوال فترة السنة(3). وكنت اعلق عجينة جدتك، الموضوعة في كيس كتان ابيض مع عقد بخور مريم على شجرة مباركة(4) اذ لم يكن مسموحا ان تعلق وديعتنا على اشجار متمردة، كالتينة التي لعنها المسيح مرة، وما عادت تركع للمعمود(5) اي "الدايم دايم"، لحظة مروره.
نعم لقد كانت لليلة الغطاس رمزية كبيرة عندنا يا "حبيب جدك". واني لن انسى كيف كانت تتكلل تلك الليلة بالبرد والصقيع، فتتجمد المجاري. ولقد درجت عادتنا ان يستحم الجميع في منتصف تلك الليلة بالمياه المسخنة بحطب السنديان. لقد كانوا يستحمون وسط ترتيل "باعتمادك يا رب في نهر الاردن...". لقد كنا نستحم بمياه تقدست بفعل العماد، ونلف معاصم ايدينا وعواميد البيت والتبان بخيط كتان ابيض تحديدا لوعد انتمائنا لذلك الناصري ابن مريم.
ثم كنت آخذ عجينة المرحومة جدتك مع عقد الابصال وأعلقه على زيتونة حديقة منزلنا. وكنا نستفيق صبيحة العيد باكرا فنشارك اهل محلتنا قداس العيد وصلاة تبريك المياه.
وبعدها كنت امضي الى نبع المحلة لتغطيس عجينة جدتك المعلقة، في المياه ثلاثا. وكان كساء العجينة الابيض يتلوّن بالتراب جراء سجدتها للـ"دايم دايم" لحظة مروره.
لقد كنا نغطسها وننشد: "غطاس، غطاس، يا غطّاس. مار يوحنا عامدك والسيدة عرابتك...". ولكم اختلط صوتي مع اصوات رفاقي الذين اتوا للغاية عينها. وكانت الامانات ترد الى موقعها بعد انتهاء الطقس. وتسلم الى النسوة في اليوم التالي كي يقمن بدورهن بالطقس نفسه. وتنتهي رحلة الخميرة الى العين في اليوم الثالث، وكان الصبيان عادة هم من يدخلونها الى المنزل. ولقد كانت تلك العجينة تستعمل كخمير خبز المنزل طوال العام. كما كانت بعض اجزائها تستعمل لاعداد حلويات ومأكولات الغطاس على شاكلة "المعكرونة بخشاب" و"العويمات" و"الزلابية" وغيرها...
اما عقد ابصال الخميرة فقد كان يحفظ لحرق بعض حبيباته كبخور، اذا ما وقع فرد ما من افراد المنزل في المرض او في مصيبة.


في النظافة والوجيه

ولقد كان للغطاس يا بني ابطاله ايضا، كالـ"وجيه" مثلا الذي عمل حلاقا. و"الوجيه" كان قد انتمى، لما كان في دنيانا، الى عائلة كريمة ما تعوّد افرادها الاستحمام الا مرة في السنة، وذلك عشية ذلك العيد الرهيب. حفظت عائلة الـ"وجيه" ذلك الارث بهدف الابقاء على صبغة الميرون(6) ندية لعقود طويلة. الا اننا طالما اعتبرنا ان تلك التصرفات كانت غريبة عن المسيحية. وقد ادانها الخوري "جرجس" بشدة لكن دون جدوى. ارث جعل عائلة "الوجيه" على عداوة مع المياه حتى تلوثت بالبخل والنميمة والحسد، فضاع الميرون لحساب الشحم. الا اني، وعلى الرغم من كل ذلك يا بني، قد احببت "الوجيه". لم لا وقد عرفته بداية بشرياً على شاكلتي، الى ان استحال وحشاً يتغذى على اللحوم والشحوم والشهوات. تميز الوجيه بقدراته الكلامية ومواهبه على تشييد قصور احلام ومخططات تتبدد مع حلول كل صباح. علّ ما أضر بالوجيه كان تيمنه بالشيطان في الصدقية حتى اضحى يتكلم بلسانه.
اذكر الوجيه يا بني يصرخ ويبكي عشية كل غطاس حين كانت المياه تلقى عليه من عمال النظافة لغسله، بناء لامر رئيس البلدية وفي اشراف شرطي المحلة. فإياك ان تهمل نظافة القلب يا ولدي لانها من الايمان. وتذكّر دوماً انه كان للوجيه عائلة، وهجرته. اريدك يا بني ان تغسل روحك كلها ايضاً مع كل عيد غطاس من كل ضغن. نعم، لانك بالمعمودية قد استحلت من اهل النظافة والالوهة، فلا تنفك تتأمل في كل غطاس ما قد لحق بنفسك من اوساخ وترهل. دع المياه تدخل الى عمق نفسك حتى تجزع هي ولا تجزع انت!
اخرج من رحم امك، واستولد نفسك نظيفاً يا حبيبي مع كل غطاس. دع المياه تحمل خطاياك وتميتها. اسرق منها نقاوتها ولا تك كشجرة تين خاطئة. انسحق مهما كبرت، لان الانسحاق طريق التجدد. تنظف بالمياه الجارية واجعلها تحمل احقاد أمسك بعيداً من يومك وغدك كي لا تصاب بالوسخ والموت والترهّل.


النهاية

وما زال "طنسى" الرجل يتذكر اقوال جده مع حلول كل غطاس. وقد اضحى هدفه الاساس ان يستحم على الاقل مرة من الداخل في مثل هذه المناسبة كي لا تهجره صبغة الله الملوكية (الميرون) فيضحي مرذولاً ومغلولاً يتكلم بلسان ابليس في عالم هو له اصلاً.

هامش:
1 – زهرة بصلية تزهر شتاء في زوايا الحقول اللبنانية
2 – كرْم
3 – يعتبر الكتاب المقدس ان يسوع هو الخمير الذي سيخمر البشرية (العجين) برسالته الخلاصية
4 – الشجرة المباركة هي الشجرة التي بحسب التقليد الشعبي تركع قبل منتصف ليلة الغطاس.
5 – المعمود هو السيد يسوع المسيح الذي بدأ مهماته الخلاصية على الارض بالاعتماد من يوحنا في الاردن.
6 – الميرون يصنعه كبير احبار الكنيسة من سبعة عطور وزيت الزيتون. ويدهن بالميرون كل من يتقبل سر العماد في الكنيسة. والعماد يشكل قبول شخص ما ضمن الجماعة المسيحية المؤمنة.

مازن عبود

.........................................................................................................................................................................................
جميع الحقوق محفوظة - © جريدة النهار 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق