الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

المدينة العظيمة 2/1

غادرتُ «كانتكي» التي لم ارد تركها مع هذا الكم من الاحباء كله والذكريات كلها. غادرتها تاركاً لبنان وفيروزه وتالا ورانيا... وما شئت أن اذرف دمعة من الدموع المحتجزة في عينيّ. وانطلقت في مشواري لمعاينة «نيو يورك»، تلك التي غنّى لها «فرانك سيناترا» أجمل ما عنده... انطلقت كي ازور المدينة التي تنبأ لها وعنها "نوستراداموس". فتكلم عن سقوط البرجين الكبيرين في المدينة العظمى وعن المطر الحامض. جئتها لا من اجل "وول ستريت" واقتصاداتها الوهمية، بل من اجل "برود ويز" والمسارح والموسيقى. عرّجت على تلك المدينة وفي بالي ان المح فندق "والدورف استوريا" ومبنى الـ "امباير ستايت" و"السنترال بارك" ومتحف "المتروبوليتان". جئتها ولم يغب عن بالي قوافل المهاجرين من بني جنسي الذين قدموا اليها، فاقاموا فيها، وعملوا في "بروكلين" قبل ان يتناثروا في سائر الولايات الاميركية. اقلعت الطائرة الى مطار JFK، وفيَّ شوق لمقابلة تلك المدينة التي تَمَلّكني خوفٌ منها. لم اعرف انّ السيناتور ميتش كونيل- رئيس الغالبية الجمهورية في الكونغرس كان ينتظر معنا عند معبر الدخول الى الطائرة مثل أيّ مواطن عادي. كما اني لم ادرك صفته عندما جلس الى جانبي في مقصورة الاعمال، حيث انهمك في القراءة. ولم اسع الى ان اتعرف على صفته. اذ انه لم يحظ باهتمام غير عادي على مثال ما يجري في بلدي. مرافقوه ومساعدوه تواروا. الا انني احسست بأنّ وجهه كان مألوفا بالنسبة لي. فتبادلنا اطراف الحديث حول الانتخابات الاميركية والشرق الاوسط الى ان وصلنا الى "نيو يورك"، هنا في نيويورك اعدّ له على ارض المطار استقبالا يليق بالرؤساء!؟ لم ادرك بداية انّ كلّ تلك التحضيرات كانت من اجله، الا عندما امتشق درج الطائرة، ولمّا مضى. سألت عنه، فأُبلغت، وصمتُّ! ورحت "افتكر" في كل شيء: "الولايات المتحدة. الكونغرس. الانتخابات الاميركية. لبنان. انا. إرث ساستنا. سلوك الساسة الامريكيين. وشخصيته...". شعرت انّ الاقدار دبّرت لي لقاء مع احدى المرجعيات الاميركية من دون ان اطلب ذلك. ذهلت لهذا الأمر. وتأملت في ما جرى معي ملياً. وغادرنا تلك الطائرة الى محطة التاكسي التي كانت مزدحمة للغاية. توجهنا غروب ذلك اليوم الى "مانهاتن" وفندقنا القابع في الشارع السابع من وسط المدينة على بعد امتار من شارع مسارح "برود واي". وفي صبيحة اليوم التالي مضيت كي اكتشف المدينة عبر الباص السياحي. كانت "مانهاتن" ابراجاً زجاجية لا تخترق جذوعها الشمس. وهي درة "نيو يورك" التي لا تنام. فصلتها المياه المالحة عن "بروكلين". لم تكن هي وحدها المدينة العظيمة. لا، وما كانت "بروكلين" لوحدها ايضاً. بل انّ المدينة العظمى هي كلاهما واكثر. فالاولى لم تظهر لولا الثانية. سُحرت بالدعاية والاعلانات والابنية في "نيو يورك". واسرني طنين المدينة التي كانت للمال واسواقه وجنوده وعوالمه. ففيها بنى الناس للتجارة كاتدرائية. ناسها كانوا يركضون في الشوارع هاربين من بعضهم. كانوا يتسابقون ما بين أفياء ناطحات السحاب الزجاجية. يسيرون على عجل. علّهم يخافون من سطوة المباني او من قدوم الوحش. "نيو يورك" هي قبلة العصر وحضارته البلورية الداكنة. بقعة غزتها ناطحات السحاب السوداء التي تسابقت في ما بينها على تسلق الاديم. ابراج اراد لها اهل المال ان تكون شاهداً لعظمة حضارتهم وتعاظم نفوذهم وتنامي قدراتهم وجبروتهمم. "نيو يورك" قلب العولمة وام الحضارات التي انبثقت عنها. جذّابة هي ومخيفة. مدينة "الروك" والموسيقى الثقيلة. ببساطة هي ضاربة ومتشعبة في اعماق الارض وما تحت الارض. مدينة الاسرار والدهاليز التي يسكنها حكّام "واشنطن" والعالم "الحقيقيون". مدينة التناقضات. احشاؤها عتمات. امّا ووجهها فكالصبح. جميلة هي وباهرة، تتباهى بما لها. وما لها كان من صنع البشر. تأملتها عميقاً من "متن" ذاك الباص الذي قادنا في شوارعها. فعرفت بعضاً من قصصها التي لا تنتهي. ولكل دليل قصصه عن المدينة التي تلتهم البشر. كبيرة كانت باعراقها ودياناتها وطقوسها المعولمة وغير المعلومة. (يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق