الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

المحطّة الأخيرة

اقلعت الطائرة من حيث حطّت اصلاً. فحملتنا الى «بوسطن»، المحطة الاخيرة من المشوار الطويل. المسافة الزمنية لم تكن كبيرة. الّا انها كانت ضرورية كي أعيد رسم «نيويورك». وجلت مجدداً في كل مطارحها الجميلة: حديقة "السنترال بارك" الخلّابة، ومتحف "المتروبوليتان" حيث تركت مصر فيه منها قطعاً ومعبداً... عرّجت على الشارع الخامس حيث النخب المالية العالمية من الأذكياء ممن يريد بعضهم لنا ان نصبح كائنات ممغنطة في عالمهم الوهمي تُحرَّك كدمى مسرح الاطفال. فيمسكون بنا، بغرائزنا وحاجاتنا مستعملين علوم هذا العصر وطرقه للتحكّم بسلوكنا، لكشف اسرارنا ورصد تحركاتنا. فنرتبط بحاسوب. ونفرح لذلك!! خشيت"نيو يورك" لانني مقتّ اذكياءها، مقتي لأزمة التقلص المالي واسبابها. وخشيتي منها لانها "العولمة" المستوحشة. وانا اكره ان اكون قرداً ممغنطاً. ثمّ راحت "بوسطن" تمحو اطياف "نيويورك" كلما اقتربنا منها. "بوسطن" في وجداني هي كلّ الولايات المتحدة الاميركية. فهي قصص شتوية للعمة "ام سليم" ايام الطفولة، وفي ازمنة الشتاء الباردة!. هي قصص لتلك المرأة القائدة والخضراء، وقت تصبح القصص في جبالنا اثمن من الدفء. حين ترحل الشمس وتضحي الليالي دهرية. فتسكن "عوالمنا" الخيالات. حين تحلّ الثلوج ضيفاً ثقيلاً على الجبال والناس والحارات القرميدية، تقعدنا في بيوتنا، تخرق مواقد حكاياتنا ونيرانها جبة الغيم الداكنة وصهيل البرد الراكض "ادخنة"، "ادخنة"، وتحملها جيوش الريح آمالا الى القمم. كنت متشوقا للقاء "بوسطن" شوقي "لأم سليم" التي سَلَبَتْها منا صنارات الحياكة كي تصنع للفلك غطاء من نجوم. او كي تصمِّم لشجر الحقول زينة في الميلاد وتصنع اطباقاً بطعم الصعتر وحلو التفاح لملوك الجان. وصلنا "بوسطن" ظهراً. ولمّا بلغتها، وجدتها منشغلة بأخبار ابنها، المرشح الجمهوري للرئاسة- ميت رومني. فالموسم كان انتخابياً. وحمّى السباق كبيرة. كما انّ الاعصار ما كان قد حصل بعد. فتغيّر المزاج. وجدتها جميلة تتلألأ تحت انوار الشمس الضاربة على مرفئها. "بوسطن" تلك التي لها قلب اوروبي خالص في جسم اميركي. وقد حوت حديقة جبران. ازدانت بالجامعات العريقة، كما بالنصب التذكارية. استمتعت جداً في الوسط التجاري لتلك المدينة. وتوقفت ملياً امام نصب المحرقة المؤلف من ابراج زجاجية صغيرة ستة وممرات فيما بينهم. احببت جداً ما كتبه "مارتن نيامولر" على بلاطة: "اتوا اولاً لاصطياد الشيوعيين. ولم افتح فمي لأني لست شيوعياً. فوافوا لاصطياد اليهود. ولم اتكلم لأني لست يهودياً. ثمّ اتوا لاخذ الكاثوليك. ولم اتكلم لاني كنت بروتستنتياً!. واخيراً اتوا من اجلي. ولم يكن حينها احد بعد على قيد الحياة كي يتكلم ويدافع عني". تأملت عميقاً في الكلمات التي سجلتها في يقيني. الّا أنّي حزنت جداً. فالتاريخ بمجمله ردود فعل. فابناء ضحايا الامس تحوّلوا الى جلاّدي اليوم. ومازالت الحاجة كبيرة الى من يتكلّم في وجه الظالم. لانّ ظلم انسان واحد هو ظلم بحق البشرية جمعاء. اذ انك تنتهك الانسانية التي فيه. ورحت اجول في معالم المدينة القديمة. واتحسس التاريخ الطالع من ابنيتها. والأديم يرمي علي بعض من رذاذه الخريفي. استوطنت تلك الارض العائلات اللبنانية كعائلة "اسحق" التي استضافتنا على مادبة عشاء. وواكبتنا في مشوارنا. كانت روح العائلة اللبنانية فيهم تضيء تماماً كعائلة "سعد" ايضاً التي اظهرت كل اللباقة في التعاطي معنا، فأرتنا مفاتن المدينة. واصطحبتنا الى المطار. ما غادرت "بوسطن" الّا بعد ان قابلت "هدى" الصغيرة حفيدة العمة "هدى". وقد اضحت دكتورة في علم النفس تعمل في احد معاهد الابحاث هناك. التقيت الحفيدة، فاسترجعت معها الماضي وجدّتها. فشعرنا انّ الارواح تسكن القصص. احببت "بوسطن" المدينة المحافظة والقديمة والمثقفة والهادئة. رغبت في ان ابقى فيها اكثر. الّا انه لي وطن. ولي حبيبة تنتظرني، تتخابط مع الزمان لاستعادتي، وانا لاستعادتها. ولي اهل و"صحاب" ورفاق يأملون في رجعتي الى "اورفليس". كانوا ينتظرونني، ربما كي ندفن سوية امواتنا واحباءنا. علّه كي نحلم معاً بغد افضل. ومن ثمّ نُحبط معا. "بوسطن" ارتسمت في بالي المدينة الهانئة التي خطّتها اقلام خريف "ماساتشوساس" الواناً دافئة. شوارع حمراء وبرتقالية تفصل، تربط ما بين الحداثة والتاريخ المعاصر، وما بين الخريف والمشاعر الجيّاشة والاوراق المتساقطة. في بوسطن شعرت في انجذاب ورغبة بالعودة الى حبيبتي والى ارضي. وغادرتها على متن طائرة مغادرة الى اوروبا، فبيروت. ووافى من بعدي الاعصار. وإنّي لم ارغب ان يأتي بعدي. نعم، فانا لم ادعوه. عدت من "بوسطن" الى بيروت. وانا محمّلٌ ببعض عطور بلاد العم سام وقصصها. كما تسلحت بكلمات القس"مارتن نيامولر" بغية استكمال ما قد بدأته. فمن غير الجائز ان اسكت واستكين على الظلم. فيفاجئني الوحش يوماً. ذاك الذي يستفرد الناس. فيصطادني وحيداً على حين غفلة. ولا يكون احد بعد على قيد الحياة كي يتكلم...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق