الأحد، 17 مايو 2009

"دعبوس" وأساليب الديموقراطية اللبنانيةيحارب المال السياسي ومغريات الانتخابات ويأسف كيف تحوّلت اللغة وسيلة للخلاف لا للجمع
اذا ما رأيته فانك حتما ستسارع الى اكتشاف مكنونات ذلك المخلوق الودود والخفيف الدم. فطلته السمراء كانت كجبل، وصرامته كسيف
وروحه كالخيل الهاربة من سطوة الرياح في غياهب النسيان. كان محبوبا رغم انه كان فقيرا، اذ يعمل جاهدا مع قطيعه ليكسب يومه.
كان اسمه "دعبوس"، وكان لؤلؤة مخاتير الناحية الجردية لبلاد البترون. وما زالت اخباره في افئدة ناسه عطرا ينبعث من قمقم كلما اقترب موسم الانتخابات. فلقد شكل "دعبوس" مع زوجته "فرنسيس" الطويلة اللسان والطيبة القلب ثنائيا فريدا واجه بكل ما اوتي له المال السياسي ومغريات الانتخابات. فقاطعا مثلا ولائم الزعيمة "راحيل بو زيد" الدسمة، التي التفّ من حول منزلها الضارب على شارع محلتنا الرئيسي كل انواع الهررة والكلاب والمفاتيح الانتخابية، كما سطوة "النوس" وسلاحه الفريد وفلوس "شرشبيل".
في "انواع" الزعامات والمحلة
كان الناس يجتمعون عند "راحيل"، المعروفة بالزعيمة، ظاهريا ليستمعوا الى توجيهاتها وتحليلاتها الانتخابية، وواقعيا كي يتذوقوا اللقمة الطيبة المجانية والنغم العذب. و"دعبوس" (المفكر العظيم)، لم يكن يوما من هذه النوعية من البشر التي اعتبرها كالنمل، تجتمع على المأكولات والحلويات حصرا. هذا وقد انتقد صاحبنا ايضا اسلوب "النوس" القبضاي الذي كان يجعل بندقيته تتكلم كي يقنع الناس، ويفرض المرشحين. لقد آثر اكثر طريقة "ابي النسم"، رغم سطحيتها، والتي ترتكز على خفة الدم والتهريج في مواجهة فلوس "شرشبيل". اما امرأته "فرنسيس" فكانت الاعنف في انتقاد "هيلانة ابي زيد" التي اعتمدت على اللقمة، فكان شبه توافق بين الزوجين انّ اللقمة والبندقية وجهان لعملة واحدة سوداء.
في راحيل و"لقمتها"
طريقة الزعيمة في استعمال "اللقمة" للاقناع السياسي وفتح الاذهان كانت تقع في صلب ما كان يسمى نظرية "ديموقراطية البطون". وقد اعتمدت "راحيل بو زيد" الملقبة بالزعيمة على واقعة نهوض "فيفا" جارتها من الموت، طلبا لاحتساء الشراب الغازي المعروف باسم "بيبسي". فكان ان أذهلت تلك الناهضة من الموت (يومها) محفل النساء المحيطات جثمانها والنادبات لها، واخافتهنّ، فجعلتهنّ يدركن تأثير المأكولات على البشر. اثر ذلك، عملت "راحيل بو زيد" على تطوير هذا المعطى لتكوين نظريتها في ممارسة الديموقراطية، والمعروفة حاليا بديموقراطية البطون. الا انه ثبت انّ تلك النظرية لا تعطي مفاعيل على بعض اهل الخير مثل "دعبوس"، الذي هو من الحواتم (آل حاتم) وقد قالوا في انفسهم ما يأتي: "نحنا الحواتم عايشين بخيرناوما بعمرنا ربحنا جميلة غيرناصبّي حمص نزّلي عرق طلعوا النواب او ما طلعوا (لخيرنا)". كما اتت حوادث عدة كي تضعف ارجحية نظرية "ديموقراطية البطون" هذه. فمرة ادخل مدعوو "هيلانة بو زيد" مباشرة الى المستشفى اثر مشاركتهم في غداء "عرمرمي" في منزلها عشية الانتخابات. فعلى ما يبدو فانّ الميكروبات قد غزت المآكل والمشارب، فكان ان خسر مرشحها اصواته جراء ذلك وحزن، معتبرا الحادثة المشؤومة ضربا من ضروب التآمر. ومن بعدها ادرك قوم "هيلانة" اهمية الامن الغذائي، فأنشأوا جهازا مضادا لدرء الاعتداءآت على الاطعمة لضمان سلامة المنتخبين.وسرعان ما فرغ زاد الزعيمة من الاكل والنقود، فهجرها روّاد الجلسات، فاضحت وحيدة، وخسرت زعامتها. لقد كان ذلك بعد ان توفت اختها في المهجر، فبخل عليها بنو المرحومة بالمال اللازم للعمل السياسي. وتحسّر "دعبوس" على "راحيل" التي ثقب دفها فرحل ناسها، وأضحت هي "مهترة" لهم. وقد جعل صاحبنا من قصة الزعيمة امثولة يبلغها لزائريه كي يثبت صوابية اساليبه السياسية المرتكزة على ضرورة اللجوء الى الفكر والاقناع لارساء قاعدة شعبية ثابتة.
المختار وابن آوى
كما انتقد "دعبوس"، على غرار كثيرين من اوادم زمننا، لجوء "النوس" الى استقدام البدو لتغيير المعادلات او لجوء "سوسو"الى الاغراءات المادية لتحقيق ذلك. وكان الرجل يرى في كل تلك الوسائل مضيعة للوقت والطاقات. ولكم استعاد في مثل هذه الايام حادثة المختار القديم وابن آوى، مبلغا اياها الى ضيوفه، قائلا: "لقد كان لمختار الشلاهبة "وديع" مسدس في العشرينات، اشتراه كي يحمي شرفه ومنزله من كل معتد. وكانت مؤونة المسدس من الذخيرة الحية مكلفة للغاية في تلك الايام، لدرجة انّ المختار الراحل تردد غالبا في اللجوء الى الخيار المسلح، وخصوصاً بعدما اغتال مرة ابن آوى الذي كان على وشك التهام دجاجاته الاربع. فاكتشف انّ اكلاف الذخيرة المستعملة لردع الحيوان كانت اكبر بأضعاف من اثمان الدجاجات التي انقذت. لم يعن "دعبوس" بدجاجات "المختار وديع" الوطن طبعا، بل اكلاف فوز مرشح ما، ينفق عادة اموالا باهظة للوصول الى موقع وجد كي يكون للخدمة وليس للكسب المباشر. ولكم انبرى الرجل في وسط قومه قائلا: "تخليت عن ختمي يا جماعة، لاني لن اوقّع على ما يتنافى مع اقتناعاتي، مهما فعلتم... ". كما احتار "دعبوس" وتأمل متعجبا بغرام بعض الساسة بالخدمة العامة، مقارنا اياها بغرام ابن آوى بالدجاج. فكان يقول لناسه "قصة مرشحينا مع المواقع تشبه حكاية الواوي الذي شوهد مرة يضم دجاجة "ام عبدو" الى صدره، فانتهره الجار قائلا: "اتركها يا وحش!". فما كان من الواوي الا ان اجابه: "انّ الغرام بين متحابين لا يعني الغرباء". وعندها صاح الجار مناديا "ام عبدو" وقائلا بصوت جهوري: "بش... بيعجبني حبك للدجاج يا واوينا".
دعبوس
ولكم امتعض "دعبوس" من تصرفات "رؤوف الملفوف" و"الحكيم المستقيم" على اثر تركهما وسائل عيشهما التقليدية والتحاقهما متأخرين بالعمل السياسي وبأموال "شرشبيل"، الذي اطلق على نفسه لقب معيل الفقير. فألحقا بالمحلة فسادا ونميمة. لقد كان كل من الرجلين يبحث عن مملكة له يعتبرها مسلوبة. وفي كل مرة ظنّ أنه اقترب من هدفه، ابلغ انّ مملكة احلامه قد بعدت اكثر فأكثر عنه، فاستشرس في الهجوم... هكذا صارا ينتقمان من الزمن والناس، غير مدركين أنّ الطيور لا تواجه حركة الرياح بل تتبعها.
رؤوف الملفوف
هذا وقد عُرف "رؤوف" الملفوف برصده تحركات النافذين. وقد جرت عادته ان يزود المهتمين بمعلومات قيّمة عن حركات ابطال الساحة (أول بأول) كما المستجدات الانتخابية. وقد سخّر لهذه الغاية امه المعروفة في اوساط النساء بـ"الرادار" نظراً الى قدرتها على رصد المارة في محيط بيتها على بعد آلاف الامتار. استعاض صاحبنا عن زراعة الملفوف، الذي ما عاد مربحاً في مثل هذه الايام الحاسمة من تاريخ البلد، بزراعة الاخبار الملفقة وغير الملفقة كي يكسب عيشته. لم لا ولكل موسم زراعته المربحة! بحسب ما ابلغه "الحكيم المستقيم" الذي هجر بدوره سماعته ومعداته الطبية جارياً وراء السماعة والعمل السياسي الذي يدر عليه اموالا وافرة، اوفر طبعا من معاينة الاطفال الفقراء. وكان ان أوكل "الحكيم المستقيم" الى "رؤوف الملفوف" ايضا مسؤولية استئجار حيوانات النقل كلها في تلك الناحية التي احصاها بدقة مبلغا معلمه بصوت جهوري، قائلاً: "الخواجا منصور - دابة، اسطفان - دابة، الابرش - دابة،... والخوري يوسف - جحش".
...والحكيم المستقيم
وكان قد قلّ عمل "الحكيم المستقيم"، كما يسميه "دعبوس"، بعدما استحالت كل ام طبيبة بدورها، وذلك بغية الحفاظ على النقود في مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة. قلّ عمله لمّا لم يتجاوب مع المعاينات السلكية او بالواسطة، ولمّا لم يشأ جعل الطب رسالة. الا انه اراد تعويض فرصه الفائتة بالمزج بين الطب والسياسة. واقران الطب بالسياسة ادى الى نشوء حمّى الانتخابات التي راحت تنتشر بقوة حتى انّ الاطباء اضحوا بغالبيتهم مصابين بذلك الداء، الذي لا يدرك مظاهره الا من سلم منه. داء يجعل المريض يعتقد أنّ مفاتيح الحق في جيبه، وأنّ الضلالة هي في الآخر. فيتحول انتباه المصاب عن كل الامور الوفاقية والجامعة الى الامور الخلافية. ويروح يحارب خصمه محاربة الملائكة للشرير، فلا يعود يرى الا على مسافات قصيرة وما يقدم اليه من معطيات حصرا. كما يسخّر المصاب كل الكتب السماوية والمنطق للوصول الى غاياته، فينفصل عن كل من خالفه الرأي ويقطع اقنية الحوار وشبابيكه التي تدخل اليه هواء جديدا. ومن مظاهر ذاك المرض الاحمرار المفرط في الوجه عند الكلام في السياسة والحماسة الشديدة وسرعة التحرك والالتهاب والانفجار والكذب.
الكلمات ومعانيها
قرف "دعبوس" كل الانماط، كما المال وتأثيراته، وقد كان يضعه تحت نعليه كي يعلو. فتكبر قامته امام ربه وناسه. كما مقت "دعبوس" الخطأ، ولم يكره الخاطئ. وكان يحاول ان يحب جميع المتبارين الى سدة الزعامة لكنه لم يكن بالضرورة يواليهم بعكس "نبيهة" جارته التي كانت تتمنى لهم جميعا الفوز في المواقع. ولكم ازعجه حقد الواحد من المرشحين على خصمه، كما رغبة كل منهم الاستئثار بصداقته. لقد كان الرجل يشعر، ومع حلول كل موسم انتخابات، انّ غيوما سوداء تحوط الناس والامكنة مما يطبق عليه صدره، فيجعله يهرب. كان يكره ذلك الموسم، لانه كان بحسبه الاكثر اساءة الى الكلمات. كيف لا وهو يعتقد أن خلاص البشرية قد اتى الى البشرية اصلا كلمة صافية. ثمّ انه كان يأسف ان تستحيل اللغة في ذلك الموسم وسيلة للتفرقة لا للجمع. فيتم القاء الكلمات كيفما اتفق من دون الالتفات الى معانيها. وهو قرأ في بيانات علم الالسنية أنّ اللغات اصلا تشتق كلها من جذع واحد يتكلم به الرضع عندما يبدأون النطق. بالفعل قرر "دعبوس" مواجهة الديموقراطية في بلادنا، اذ انها قد تزاوجت بالقبلية والرجعية والطائفية، فأضحت جرعات همجية وتخريبية. ولكم تحسر على منظر ادركه في احدى القرى النائية التي زارها، حيث قرأ يافطة كتب عليها: "الحزب الشيوعي اللبناني - طائفة (كذا) - قبيلة (كذا) تهدي سلامها الى الرفيق (فلان) بك لاقتلاعه الاقطاعية السياسية من جذورها في البلد". حزن "دعبوس" جدا لما عرف أن المفاهيم تنقلب رأسا على عقب في بلد الفتوش والمخلوطة. ومن ثمّ لم يتعجب اذ ابلغ بأنّ طعمة لبن بقرته "زينة" شابها المازوت، كما انه لم يحلل تلك الواقعة بالمطلق. بل احضر بقرته الحلوبة "زينة" ووضعها في الشمس متأملا وقائلا: "يا عدرا شو هيدا البلد، حتى زينة حولوها بير مازوت!".مازن عبود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق