الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

فصل من قصص "يوسف الرسول" وبناته وصبيان الحارة

انشغل «يوسف الرسول» بالسياسة والامن مؤخراً. وهو ما ادمن عليهما بل على التجارة وعلى تلاوة الرسائل في الكنيسة في كل احد ومناسبة. وتلاوة الرسائل قد أكسبه موقعاً متقدماً ولقب «رسول»، امّا التجارة فأمّنت له الغنى والعيش الكريم. الّا انّ شيئا ما قد حصل في حياة ذاك التاجر الذي عرف عنه بأنه لا يغادر متجره في السوق الجديد، الّا في اليوم الثامن وايام الاعياد، او اوقات زياراته لطرابلس بهدف التبضّع. ومتجره هو واجهة لمنزل يمتدّ عميقاً خلفه، ويشكل امارة حكمها. فشكّلت خزانا تموينيا للمحلة وسائر الجوار، وتنوّعت خصائصها المادية ما بين الخرضة والمواد الاستهلاكية والبنزين والحلوى والخضار. ولقد استوطن الامارة بنات الحاكم!! فازداد عدد الزبائن من شريحة الشباب المتلعثمة، اذا ما حضرن. وكان الخجل يتملكهنّ في كل مرة كان يحضر "فقّوس" الذي كان يغدق عليهنّ بفيض الغزل، فيخجلنّ ويخفضن رؤوسهنّ. لقد شكّل الغزل سلاح الصبي الفتّاك لزرع الخجل بغية السطو على بعض الحلوى الطرابلسية المعروضة في الصندوق الزجاجي في ذلك الدكان والتهامها بسرعة، او وضعها ببساطة في محرمة جيب طويل لمعطف أعدّ خصيصا لمثل هذه العمليات. ومثل هذه الانواع من الجيوب اشتهرت بها عائلة ذلك الصبي الرذيل الذي تخصص في السطو على الاطعمة. فحتى "سليمة" لم تسلم من غزواته، على الرغم من اسمها المصون وسطوة زوجها وكثرة عدد بنيها وتعاظم قدراتهم الجسدية. فقد سطا مرة على "غمتها" التي كانت تحضر على الحطب، وأبدلها ببعض من "فروج" كان قد سباه من طنجرة امرأة اخيه. فكان ان تسبب بعكرة استكملها بالاعتداء على "خوابي" زيت ابيه الذي باعه من دون ان يُيَتِّم الاجران التي ملأها ماء، من دون ان يبخل عليها ببعض من الزيت كي يطفو على السطح. فيطمئن له والده الذي تعوّد زيارة كنزه مطمئناً الى سلامته وجودته، حتى حان موعد البيع فحصلت الفضيحة. وتحسّر الوالد على تعبه، وشكا ما اصابه الى الكراكون (مغفر الدرك). انشغلت سلالة "يوسف الرسول" بحلّ مسألة تناقص كميات الحلوى في ذلك الدكان-الامارة الذي عجّ بالأنشطة التجارية، في مثل هذه اللحظات المصيرية من تاريخ المنطقة والبلد. ما أرادوا إعلان موضوع تناقص كميات الحلوى خوفاً من تأثر سيكولوجيا الزبون، فيظنّ ان الدكانة قد تمّ اجتياحها من قبل الجرذان او انّ الامن فيها قد اضحى مخروقاً، لا سمح الله. فكان ان تمّ اتخاذ قرار عائلي وقّع عليه كل افراد العائلة، وتألف من مادتين. المادة الاولى: "ضرورة الطلب الى الزبائن التصفيق عند انقطاع التيار الكهربائي". فالمثل يقول "عند تغيير الدول احفظ رأسك"، والتصفيق عند انقطاع التيار الكهربائي الرسمي بانتظار وصول كهرباء الموتور ضرورة لحفظ الرأس والجيب. وبالفعل، أضحى "يوسف" يصدح عند كل استحقاق كهربائي: "هلمّ يا معشر المؤمنين، فلنصفق حتى يأتينا التيار الكهربائي سريعاً !!". وقد نسب هذه المقولة الى الآباء القديسين، كي يعطي مساره مشروعية دينية. واضحى التصفيق سيّد الاستحقاقات، فذاع صيت "يوسف" بأنه خطيب انقطاع التيار الكهربائي المفوّه. فراح وزير الطاقة والمياه يدرس إمكانية ترشيحه للانتخابات من قبل تياره. فكان ان قاطع دكانة "يوسف" كل المعارضين، فانتكست الحركة التجارية عنده. المادة الثانية: "إقفال البوابات الدهرية ليلا والاحتكام الى السلاح عند الحاجة للنطارة". فعلى ما يبدو انّ عكرة "فقوس"، معطوفة الى تداعيات الربيع العربي على لبنان، كان لها اثر بالغ على وضعية المحلة وصفو العيش. نعم، فالمعلم "يوسف" ما عاد يكتفي بإقفال بابي المحل الداخليين الخشبيين المخرّمين بالنوافذ الزجاجية، بل اضحى يغلق ايضا البوابات الخارجية. تلك التي لها مفاتيح يتعدى وزنها الرطل. واضحت سلالته تصدح عند سماع اي ضجة: "عرفناك. شفناك. ادركناك. خلّيك عند. انتبه البيت مسلّح". امور، بحسب المراقب المخضرم "حنّا عيد"، ان أشَّرَت الى شيء إنما تؤشر الى تراجع الوضع الامني في المحلة. فإغلاق بوّابات المحال الدهرية، التي ما كانت تقفل الّا عند حصول وفاة او زيجة او ما شابه، امر مستنكر. واعتبر انّ ما حصل في المحلة المحفوظة من الله لا يمكن فصله عن مظاهر "باربيكيو (شَوي) الدواليب" في كل مكان. كان فرح "يوسف" يكتمل عادة عند تلاوته "رسائل بولس" في كل قداس، كما عندما يستوي على عرشه في دكانه، فيحتسب غلّة نهاره. لكن ليس بعد اليوم، فالقلق أضحى يسكنه حتى انّ الفلوس التي راحت تتناقص ما عادت تعطي نفس المفاعيل عند لمسها وشمّها. نعم لقد تغيّرت المحلة، لم تتغير بفعل عوامل خارجية بل بفعل خوف الناس. فـ"فقوس" كان وما زال هو هو. الّا انّ المحللين قد كبروا الفشخة، والحكّام ما عرفوا كيف يحفظون الهيبة. فكان ان حصل ما حصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق