الأحد، 21 يونيو 2009

الى فنلندا حيث يذهب السندباد زمن الانتخابات1 من 2


















صيف هلسنكي بعض من شتاء لبنان كاتدرائية وساحة ومبانٍ تبحر في الاثير و... الماضي


الأحد 21 حزيران 2009 - السنة 76 - العدد 23732
© جريدة النهار 2009


حزن السندباد كثيرا بعدما ازعجه ما ادرك من احوال قومه. فشعب الفينيق انشطر نصفين، وكل نصف راح يخوّن نصفه الاخر. ثمّ انّ كلاً منهما راح يدعي بأنّ الندّ يعمل لدى محور او محاور خارجية.
ثمّ انّ مشهدية الانتخابات لم ترق له كثيرا، اذ كان يشعر بثقل صور المرشحين او "المتوحشين"، بحسب لكنة "بتارة" الآتي من خلف البحار لادارة شؤون بلاده بعدما خسر من لغته ما خسر. والله اصلا ما انعم عليه نعمة النطق بشكل سليم.والسندباد اعاد التفكير مليا بتسمية "بتارة" للمرشحين، فشعر ببلاغة المغترب، العائد بعد زمن. و"بتارة" الذي كان اسمه اصلا مع ميلاده "بشارة"، كان يمضغ مخارج حروف لغة الـ"ض" ويبتلع من خواصها اشياء كثيرة، حتى يغدو القلب كلبا معه مثلا ، والكريم كليما. وكان "بتارة" يقول كلمته ويمشي مع تحفظ الفلاسفة. الا انه وللاسف راح يقدر اكلاف الاعلانات تلتهم خصوصيته كلما مشى في ارجاء الوطن الصغير. لقد اضحت مباني المدينة وطرقاتها معرضا لرسوم شخصيات وهمية تنظر الى بعضها بعضاً والى الناس في كل وقت. لقد كانت وجوه اولئك المرشحين طاغية حتى ان الصبي العجيب احس بالشعوذة تلاحقه في كل زوايا المدينة. فتراه اخلى مكانه للفراغ. رحل على بساط الريح عشية الاستحقاق، بعدما نادى ياسمينا وعلاء الدين. ويقول أنه ما رحل هربا، بل قرفا من الديموقراطية اللبنانية الشعواء التي لا تحمل من التسمية الا بعض مظاهرها. نعم لقد استاء جدا من منطق الخطوط، فهي تصنع عادة للقطارات وليس للناس كما سمع وعاين. رحل السندباد رغم انه احب فينيقيا وجبلها اللبان. رحل قرفا من زعماء قبائلها ومن سذاجة ورجعية غالبية سكانها ورجعيتهم. نعم، ففينيقيا اللبنانية كانت مكانا غريبا في المعمورة له نظامه وطرقه الخاصة والغريبة. فالحكم فيها مثلا كان مزيجا من كل شيء ولا يشبه اي شيء. لقد كان نظامها حرا حتى الفوضى وديموقراطيا ممسوخا. وكان كل زعيم سياسي فيها شيخا قبليا، لكن بثياب حضارية. فينيقيا يحكمها ملوك وقديسون وانبياء كذبة، ككهنة البعل الذين سفك ارواحهم ايليا النبي من غيرته على ربه. اناس يدّعون النبوة والقداسة، فيتخذون قرارات منزلة عبر احزاب هي واقعيا بغالبيتها لجان استشارية سياسية، فيساق الناس بغالبيتهم كأغنام الى الذبح. لقد كان السندباد روحا حرة مسجونة في جسد صاحبي. وكانت الروح تظهر احيانا فيه، فتحمله الى قول اشياء. ومن ثمّ كانت تنقله الى عوالم وشواطئ افضل، اذا ما عجز القيام بشيء. واخفاقات صاحبي كانت اكثر بكثير من انجازاته.
في ارض سيبيليوس
وكان ان غادر صاحبي على متن طائرة فبلغ بها ارض سيبيليوس المؤلف الموسيقي الشهير من فنلندا من القرن العشرين، في الخامس من حزيران، وذلك تلبية لدعوة معهد الصحافة العالمي" لحضور المؤتمر السنوي الخامس والثمانين للمعهد واجتماع الهيئة العامة. لقد ترسخت فنلندا في رأسه، لما كان صبيا، ارضا لاسطورة "بابا نويل" والالعاب الخشبية والايلة والثلج الذي لا يذوب والكلاب والدببة. ثمّ ادركها لما كبر قليلا، بوابة روسيا على البلطيق. الا انه لم يعرف الكثير عن تاريخها وجغرافيتها باستثناء أن مناخها كان باردا وقارصاً في معظم ايام السنة، عدا فترات الصيف التي كانت قصيرة. سمع بلياليها، كما بليالي سان بطرسبورغ البيضاء الطويلة من دون ان يكتشف شخصيا ذلك.
في فنلنلدا وهلسنكي
وصل السندباد البقعة الفنلندية صيفا ايام لياليها البيضاء. وصيف هلسنكي كان بعضا من شتاء بلاده، اذ انّ الحرارة قاربت ساعة وصوله
الست درجات مئوية، وراحت ترتفع حتى الاربع عشرة درجة كحد اقصى. وصلها نهارا، الا انه سرعان ما مضى الليل واقبل النهار. فكان اليوم التالي مناسبة لاكتشاف بعض الارض التي ارادها قياصرة روسيا ان تكون جدار العزل مع المملكة السويدية وبوابتهم الى البلطيق. بداية قام السندباد بزيارة النصب التذكاري لسيبيليوس الذي اقيم في حديقة حملت اسمه، واطل على البحر. سمع صاحبي بعضا من عزف الريح على قبر الموسيقار قبل ان يمضي الى سوق المدينة الشعبي الذي جاور البحر. فتعرف على منتوجات المزارعين واطعمة الصيادين البحرية. الا انّ اكثر ما لفت انتباهه هناك، كانت الكاتدرائية البيضاء للبروتستانت التي تمركزت فوق تمثال القيصر الكسندر، والد نقولا الثاني (آخر قياصرة رومانوف). تلك الكاتدرائية التي لم تكن ومحيطها حكرا على الناس، اذ انّ طيور النورس اقامت ايضا على ادراجها. وكانت طيور البحر تقصد حجاج المقام بحثا عن الطعام. طيور راحت تنشد بقوة للبحر والصيف والجليد والايلة والاساطير الفنلندية. لقد كانت تنشد لبلد كان منذ ما يقارب العشرة آلاف عام كتلة جليدية ليس الا! جلس السندباد مع اصدقائه من روس واميركيين واوروبيين غربيين يتأملون جمال المكان وتفاعل اشعة الشمس مع الغيوم والامكنة. وقد راحت طيور النورس تحوم من حولهم وتأتي كي تشارك المجموعة احاديثها واطعمتها. كما كانت الكاتدرائية البيضاء تراقب مرفأ المدينة وسوقها، وتبارك الساحة حيث التمثال الذي جاور القصر الجمهوري ومبنى السراي الحكومي. مبان ابحرت في اثيرها اعلام شابهت الى حد كبير في تصميمها والوانها العلم اليوناني. فغلب عليها الابيض وازرق البحر الذي اتى على شكل صليب.وليس بعيدا من الساحة التي جاورت البحر المتجمد شتاء، ارتفع نسر برأسين على قاعدة حجرية عالية. نسر الفه في بلدته ومنزله، اذ مثّل له جزءا من تاريخ منطقة احبه. لقد كان ذلك النسر، نسر آل رومانوف الذي اخذوه عن بيزنطيا الراحلة فجعلوه شعارهم. ومن ثمّ رحل الرومانوف بدورهم، وبقي رمز النسر ذكرا ليس الا. لانه على ما يبدو النسور الاسطورية انقرضت في افياء العولمة، ووراء النسر بانت كاتدرائية حمراء مرصعة بالقبب المذهبة. بانت كاتدرائية اوزبنسكي التي كرستها الكنيسة الروسية على اسم رقاد السيدة العذراء في الشق الثاني من القرن التاسع عشر. لقد كانت الكاتدرائيتان البيضاء والحمراء - المعلمان الكبيران في مدينة سيبيليوس يتناغمان من البحر ويتهامسا الكلمات العذبة، ويستمعان بشوق الى نشيد فنلندا الذي نظمه سيبيليوس. ولحن النشيد ذلك جمع استونيا الى فنلندا فاختلف النشيدان بالكلمات فقط.الا ان السندباد سعى الى معرفة السبب الرئيس وراء اقامة نصب النسر ذي الرأسين. فعلم من دليل سياحي انه اقيم تخليدا لزيارة القيصر نقولا الاول وزوجته الى هلسنكي. فوضع ذاك النسر على المسنة تماما حيثما اقلعت السفينة القيصرية مغادرة مياه المدينة الى سانت بيترسبورغ في بدايات القرن التاسع عشر. ونسر النصب كان يراقب دائماً قلعة سومالينا البحرية، القابعة على جزيرة تحرس بوابة البلطيق من ناحية الشرق-اي روسيا. لقد جال صاحبي في انحاء السوق المتمركز على المرفأ والذي يحوط بنصب النسر المزدوج الرأس. فكان ان وجد العابا خشبية من صنع يدوي، كذلك ثيابا مصنوعة من جلد الدببة والايلة، الا انه ما وجد "سانتا كلوز" الذي قيل أنه كان من هناك من فنلندا. لقد كان الكائن الاسطوري من فنلندا كما قيل له، الا انه لم يكن من اهل المدائن لانّ الحضارة احيانا تنزع عن الناس انسانيتهم وطبيعتهم الاصلية. وكي يدرك صاحبي سرّ المدينة والبلد اكثر ذهب في رحلة وبعض رفاقه الى حيث ينظر ذاك النسر المزدوج الرأس الذي جاور ايضا القصر الجمهوري. ذهب الى جزيرة سومالينا او القلعة البحرية بحسب اللغة "السويدية القديمة". والجزيرة اضحت مسورة وقلعة بكليتها، قلعة انشأها الملك السويدي اصلا كي يردع الروس ويمنع تقدمهم الى بلاده. لم تكن فنلندا معروفة حينها، اذ انها كانت جزءا من السويد ليس له حيثية. هذا وما زالت اللغة السويدية لغة رسمية يتم التداول فيها كلاميا في فنلندا، كي يتذكر اهل الكيان الحديث أنهم كانوا سويديين. الا انّ الحصن البحري الاستراتيجي المبني لضرورات عسكرية، عاد فسقط في ايدي من كان يخشاهم الملك. القلعة كانت لؤلؤة فنلندا المعروضة في محيط طبيعي خلاب للغاية. قلعة تعود الى اواخر القرن الثامن عشر وتحوي اسوارا وكنيسة روسية وثمانية مطاعم وثكنا للجيش. طبيعتها ومبانيها جعلتها تتحول مكانا للاعراس والاحتفالات الموسيقية بالاضافة الى كونها محجا للسياح. ما دعا الروس الى تأسيس كيان دولة فنلندا كان احتلالهم لها الذي تزامن مع خبر رغبة نابوليون في احتلال روسيا. فراح القيصر يلملم جيوشه مستعدا للحرب الكبرى، وكي يضمن استمرار وجوده في الارض التي ضمها حديثا الى امبرطوريته الشاسعة من السويد، اعلن الاراضي المحتلة السويدية مقاطعة تتمتع باستقلال ذاتي، عاصمتها بوروفو(المدينة الاكبر والاهم تجاريا وقتها) لتكون في مثابة جدار فصل لبلاده يدرأ عنه الى حد كبير الهجمات. ولاحقا اضحى لفنلندا عاصمة جديدة هي هلسنكي. وفنلندا اليوم، جمهورية تمتد على اكثر من 200 الف كيلومتر مربع من الاراضي، ويقيم فيها زهاء خمسة ملايين مواطن. وهي عبارة عن غابات ومجار مائية تتخللها بعض المواقع السكنية وبعض المدائن التي لا تزيد في عدد سكانها عن عشرات الالاف. هذا كان في فنلندا ووصول السندباد اليها اما قصص "ابطال" المؤتمر وحيثياته فقد قرر السندباد ان يترك امر سردها للاسبوع المقبل.
مازن عبود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق