الجمعة، 2 مارس 2012

انا وباريس واحلام ليال شتوية

بقلم مازن ح. عبّود لكم رددت العمة "اليس" على مسامعي: "لما تكبر عليك ان تزور باريس. فباريس تعلم. انها عاصمة القلم الذي يجب ان تحسن استعماله كي يرفعك عاليا. فتكون فخرا لنا. الا فاعلم يا بنيّ انّ باريس هي المدينة التي يحكمها قادة الرأي، تماما كما يحكم الرسامون روما والموسيقيون فينّا، ورجال الاعمال برلين والماركسيون موسكو". وماتت العمة "اليس" زمانا. ولمّا حان زماني، وافيتها شتاء كي التقيها على انفراد. كيف لا، وانا قد اضحيت من حملة الاقلام كما اشتهتني ان اكون!! اتيت باريسا، وفي بالي ان اكتشف لما قال فريدريك نيتشيه :"ليس للفنان بيت في اوروبا، الا باريس". جئت مدينة الانوار وفي بالي ان اتحقق لما قال "ارنيست همانغوي" يوما فيها على لسان احد ابطال رواياته: "اذا كنت محظوظا كي تعيش كشاب في باريس، فانّ طيفها سيلاحقك طوال ايام حياتك. فهي تبقى معك. انّ باريس عيد متنقل". اردت ان يلاحقني طيفها، فأطياف المدائن تخطفني الى قصص وعوالم، فتغنيني وتقويني وترفعني. وصلتها تلبية لدعوة خطة المتوسط في برنامج الامم المتحدة للمشاركة في اجتماع وزراء الاطراف المتعاقدة في معاهدة برشلونة. فكان ان مكثت فيها اياما واياما بعد انتهاء المؤتمر بضيافة صديقي "جورج قزي" الذي كتب له ان يكون ناجحا ومحظوظا، فيعيش فيها كما يجب كشاب ورجل اعمال. وقد اراني بعضا من قرانيها!! كانت موجة الصقيع قد جمّدت مياه برك نوافير ساحاتها. الا انها ما انفكت تكون جميلة كحورية تخرج لتوها من حمامها في "السين". ولمّا راتني، ازدرتني، وقالت في عينيها الخضراوين: " من عساه يكون هذا المغرور القادم من بلاد الاسفلت؟؟". فما اجبت. بل رحت انظرها تحتسي نبيذ "بوردو" في كوب المرمر. وغصت في عينيها اللتين عبقتا باسرار الاهرامات واساطير الاغريق وقصص عصر الانوار واحداث الثورة وبطولات "نابوليون" ومآسي الحربين العالميتين ونبالة "ديغول" وبلاغة "روسو" و"هوغو" و"بالزاك" و"زولا". وجميعهم تركوا على جسدها الغض ورودا وجواهر. وما كنت انا الا متسكعا جاء كي يتعرف كيف يكون الجمال!!! ودعتني الى اكتشاف مكامنها. فكانت زيارتي الاولى لكاتدرائية "النوتردام" ومحيطها التاريخي. حيث كان عبق قصص "فيكتور هوغو" حاضرا هناك. ابصرت "الاحدب" معلقا على البرج يفتش عن "اسميرالدا" التي ضاعت ما بين الجمهور. واحسست بالكاتب يجول في باريس التي خرجت كلها لوداعه في يوم رحيله الى "البانتيون". وافضت لي الكاتدرائية العتيقة ببعض اسرارها. فارتني كيف تتغيير الوان الحوائط دون ان تتبدل. وعلى بعد اميال ارتني كيف سويّ سجن "الباستيل" فأضحى ساحة. وكيف رحّل مع ظلاماته الى الابد. فسمعت من هناك اصداء اصوات الجياع والتعساء والمظلومين. فحملت سيف "جان جاك روسو" الذي خطّ به للبشرية احرفا من نور الكرامة الانسانية. فقادة الرأي في ارض "كلوفيس" مشهود لهم. ودخلت انفاق المترو حيث طالعتني فرقة روسية تلعب بكليتها كأنها في "البولشوي". فانفاق باريس تؤدي ايضا الى موسكو وغيرها، على ما يبدو. وانتصف النهار، فحللت ضيفا على صديقي "ادمون بارودي" في منزله، منزل "مازاران" في شارع "دورسيه". وكان ان تكلم عن بيروت في عزّ باريس. تكلم بمرارة وحنين عن مشروع "دورشغورمان" للبنان واقتصاده، و"اميل بستاني" الذي قضى بحادثة طوافة "مدبر"، والفرص الضائعة في بلد الارز جراء جهالات القادة ابتداء من ايام "الرئيس فواد شهاب". وحمل صديقي معه كل تلك الملفات الى مطعم "الفوكيتز" على الشانزيليزي. حيث افضى لي ببعض قصصه حول نيويورك و"ورلد اوف استوريا"، ونسيبه "سفير السعودية-جميل بارودي"، وملك الاردن الراحل "الحسين". وكان لبنان الذي حلم به مضيفي جميلا ومتألقا. اما قوس النصر فقد ارخى بظلاله على الجلسة، تماما كما طبع القرنة. ثمّ تنهدت، مرددا: "لو قدر لك يا لبنان، قادة من نوع آخر؟ آه لو قدر لك يا بلدي ان تكون وطنا حقيقيا؟". ولاحت في بالي اغنية "جيلبير بوكو"، "ناتالي والساحة الحمراء والشانزيليزه". فاختلط كل شيئ في ذاكرتي، وانا ناظر الى قوس نابوليون الذي غفا فيه جندي مجهول من الحرب العظمى. فعرّجت على الجندي والقبر. لقد كان القوس كبيرا، على قدر قامة الامبرطور وانتصاراته. معلم انطلقت منه الشوارع والساحات الجميلة. وباريس الجديدة هي نجمته، ومن تصميم "اوسمان". كما هي شرعته من القوانين المدنية. نتاج حروبه وانتصاراته وفتوحاته وضعها فيها كي تكون بابنيتها وساحاتها ومتاحفها الاجمل في اوروبا والعالم. فما عشق "نابوليون" "ماري انطوانيت" لوحدها كما قيل!! بل عشق "شرلمان" الجديد نفسه اكثر. فصنع لنفسه فردوسا ارضيا، كان هو الهه. والفردوس كان باريسا. ثمّ توجهت الى برج ايفيل. ووقفت حيث انتصب "هتلر" في نهاية حزيران من العام 1940، عشية سقوط فرنسا، منتشيا وقلقا، لمعاينة معلم الثورة الصناعية في مدينة الانوار. فرحت بدوري ارقب البرج بصمت، متتبعا تفاصيله. وقد وصّفه "الكسندر دوماس" يوما، "بالشيطاني وغير الضروري حتى انّ امريكا التجارية ترفضه". فشعرت انّ البرج بحد ذاته ما كان موضوع رفض "دوماس" انما امريكا، وعصر الصناعة الذي رمز له. واعتمرت باريس قبعة "ايفيل"، داخلة غمار الحربين العالميتين. فذاقت نشوة النصر وعبثية المرارة مع "جورج كليمنصو، والمارشال "بيتان" والجنرال "ديغول"...". ثمّ صرخت: "اين هو المارشال "بيتان"؟ ولما اضحى لعنة؟ اترى من جعله بطلا ومن ثمّ مسخه شيطانا، فارداه من وجه التاريخ؟ مسكين من يخسر مرة حتى لو انتصر لبلاده مرات!!". فأتاني صوت "الجنرال "ديغول" مناديا عبر اثير اذاعة فرنسا الحرة، بصوت حازم :"انّ فرنسا لا تستطيع ان تكون فرنسا من دون الكبر". كان "ديغول" على حق. كما انّ "بيتان" كان على حق ايضا. فادوارهما تكاملاتا. ف"بيتان" صان مقومات بلده من عبثية الحروب والتدمير. اما "ديغول" فانتزعه من مخالب المحتل. وللقاء من جئت للقياهم. مضيت الى "الانفاليد"، والى "البانتيون". في "الانفاليد"، كان نابوليون مستلقيا في تابوته الخشبي الكبير وقبة مذهبة تعلوه، كسماء. قبره كفرعون، وقد احيط بكل مظاهر التكريم. وضع "الامبرطور" هناك كاله القرن التاسع عشر. وجدرانيات المكان حكت قصة قيصر روما الجديد الذي من عائلة آلهة الاغريق. الا اني لم اسجد له. بل حنيت رأسي احتراما لسر الموت العظيم. وخاطبت عظامه التي سرعان ما اجابتني سائلة اياي عن والي "عكّا" وعن الامير "بشير"، مستفسرة عن اوضاع الموارنة والدروز والجبل. فضحكت جدا. الا انّ الضحك ما كان محبذا في دنيا الراقدين. ثمّ مضيت الى "البانتيون" الذي بعد كثيرا عن "الاليزيه". وقد انتصب على تلة "جنفياف" في الحي اللاتيني القديم، وقد كان كنيستها. فساكنت جدرانياتها تماثيله. فحكت قصتها وقصص قديسي فرنسا: الملك كلوفيس الذي نصّر بلاد الغال، والملك لويس. اما تماثيله فجسدت نضالات الثوار والقادة الحربيين. ازيل مذبحها واقيم نصبه. ففرنسا ارادت ان تقول بذلك انّ اعلان القداسة قد اضحى بيد الشعب الان. وها انّ المجتمع يعلن قديسيه. وزرت المغاور حيث وضع العظماء في غربة عن الشعارات الدينية. فالقيت عليهم التحية، ومضيت... عشقت في باريس المتاحف والقصور والساحات والشوارع. فتعطرت بسحر متاحف "اللوفر" و"اورسي" و"جورج بامبيدو" و"هوغو". الا اني توقفت في فرساي طويلا. فهو امتداد لساحتيّ "الباستيل" و"الكونكورد". ففيه بلغت الملكية عزها. اما في الساحاتين فقد انتهت بمقصلة. وتأملت عميقا في غرفة المرايا والحرب العظمى، والمعاهدة التي انهت حربا فأرست حربا جديدة. فأدركت انّ لا سلم في الغبن والاجحاف. ثمّ دخلت الى مخدع لويس الرابع عشر والملكات. حيث كانت الشمس غائبة الا في اللوحات. فشمس لويس الرابع عشر، غابت وتمخضت عن ثورة "ماري انطوانيت". وسرعان ما اتت ليلة الوداع، فتناولت العشاء في "الليب" في "السان جرمان" بدعوة من مضيفي الذي اصطحبني ليلا في شوارع المدينة. وودّعت باريس قرنة، قرنة منحنيا امام ثقل التاريخ وعظمته وعبثيته. حييت عظمة الانسان وعاينت محدوديته. الا اني اكتشفت انّ المدينة تغيرت كثيرا. ف"قوس نشّاب الدفاع " الذي شيّده "ميتران" اتى كي يقول انّ المدينة دخلت عصر العولمة. نعم، دخلت باريسك يا عمة "اليس" عصر الهامبرغر. وما عاد لقادة الرأي فيها تأثير كبير. فالعصر هو ل"مارك زوكربيرج" و"الفايس بوك" وغيره. انه عصر المجهول المعلوم القابع في اي زاوية من العالم يحرك بأرقام بطاقة اعتماد من على حاسوب الناس بغرائزهم. تركت باريس وقد اضحت معي. تلاحقني في دروبي. اضحت لي، وانا لها. لذا، فاني رحت افتش كيف اعود لها ولفترة اكبر. لما لا ووحول بيروت تغرقني وتخنقني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق